مفهوم الخطاب في فلسفة ميشيل فوكو

ت + ت - الحجم الطبيعي

بيان الكتب: مازال للفيلسوف والمفكر الفرنسي المعاصر ميشيل فوكو 1929 ـ 1984 سطوة كبرى في مجال الدراسات الفلسفية الغربية، ومازال خطابه يمتلك سلطته المؤثرة على فلاسفة الغرب المعاصرين، فهو يمثل ظاهرة في الفكر العالمي، اذ استطاعت اطروحاته ان تحدث تحولات كبيرة في المجالات التي تصدى لها: في مجال الفلسفة والنقد الادبي، وعلم النفس، والتاريخ السياسي، والطب، والحقوق.. وقد كثرت الدراسات والمراجعات العربية والاجنبية التي تعرضت لفكر هذا الفيلسوف، حتى غدت اشكالية بحد ذاتها، لما اثارته من سوء فهم ومغالطات في عرض اطروحاته وتقييمها. والبحث الذي يقدمه الكاتب المغربي د. الزواوي بغورة، يتشكل نسيجه من تلك المسوغات، فيشتغل على طرح المفاهيم الفوكوية ويعيد قراءتها واخراجها وتصويب ما لبس او انغلق في الافهام، حيث استطاع التعامل مع افكار فوكو الاساسية من خلال تطورها عبر مجموعة مؤلفاته ومقالاته وحواراته. وتأتي اشكالية ما سبق في نظره، بصورة خاصة، من الاضطراب في فهم العناصر المكونة لمفهوم الخطاب، والوظائف التي يقوم بها، والعلاقات التي تربطه بمختلف المفاهيم. والمراجعة التي يقوم بها المؤلف تتيح في النهاية التعرف الى صورة المكانة التي يبدو عليها خطاب فوكو في الفلسفة المعاصرة، دون اختزال او تبسيط او اجتزاء. ينطلق المؤلف من ان مفهوم الخطاب يعد مقاربة فلسفية صالحة لقراءة فلسفة فوكو من جهة، واستنباط طريقة للبحث الفلسفي من جهة اخرى، مقاربة لا تشكل اجابة على بعض اسئلة فلسفة اللغة فحسب، ولكنها اجابة على جملة من الاسئلة المعرفية والسياسية والاخلاقية، كما تبين له هذه المقاربة ايضاً ان الموضوعات الكبرى التي ناقشها فوكو، وهي المعرفة والسلطة والاخلاق، قد تم تحليلها بواسطة الخطاب، الذي يتميز عن اللغة والنص والاثر والفرع المعرفي، وذلك ضمن مجالين اساسيين هما: التاريخ والفلسفة.بداية، يتعرض الباحث د. الزواوي لمفهوم اللغة عند فوكو، ومنظوره اليها، في البحث التاريخي وفي البحث الادبي وفي البحث الفلسفي، مشيراً الى عدم تعرض الدراسات السابقة لمكانة اللغة وموقعها في اعماله، او للعلاقة بين اللغة والخطاب، وهي علاقة جوهرية اساسية في خطاب فوكو، الذي نفي كثيرون السنيته، وربما يعود السبب كما يرى المؤلف الى ان اللغة لم تحتل مكانة مستقلة ضمن اعماله الاساسية، بل كانت تناقش في ثنايا الموضوعات الاخرى، وفي ظل طغيان الخطاب ومسائله على موضوع اللغة. فمن منطلق البحث في اللغة يناقش المؤلف موضوع الجنون كتجربة في الحقل اللغوي، او علاقة الجنون باللغة في عصر النهضة والعصر الكلاسيكي والعصر الحديث، وطبيعة هذه اللغة المغايرة المختلفة التي اراد فوكو الكشف عنها. فاذا كانت اللغة متصلة بالعقل، والجنون منفصلاً عن العقل، فهذا يعني بالضرورة ان الجنون منفصل عن اللغة، عن لغة العقلاء، فما هي لغة الجنون اذن؟ من هذه الزاوية يتعمق فوكو في دراسة ظاهرة الجنون، من خلال كتابه «الكلمات والاشياء»، حيث يتتبع لغة الجنون كما هي مطروحة في تاريخ الجنون، فتتميز لديه بأنها لغة اختراقية تجاوزية ولا عقلانية، قد تجسدت في اعمال الفنانين والشعراء والفلاسفة اللاعقلانيين، ثم مر الجنون ولغته بمراحل ثلاث: لغة التشابه في عصر النهضة، ولغة التصوير في العصر الكلاسيكي، حيث سيحتل مكانها الخطاب، ثم تعود الى الظهور من جديد في العصر الحديث مع نيتشه وملارميه. واللغة حاضرة في تاريخ الجنون كأداة للتحليل، من خلال تتبع فوكو مختلف مفاهيم الجنون كموضوع انساني يترصد تجربة انسانية فريدة، لا تتكرر، هي تجربة الجنون. وهكذا تتشكل الخلفية الدراسية التاريخية لتصور فوكو حول لغة الجنون، من مجموعة الشعراء والفنانين والفلاسفة من امثال دي صاد، ونرفال، وهولدرين، ونيتشه الذي تعتبر شخصيته نموذجاً للتوجه الفلسفي الذي جمع بين اللغة والكينونة، وذلك من خلال تفكيره الجذري للغة والإنسان، هذه المهمة التي يتخذها فوكو قاعدة ومنطلقاً لتفكير اللغة. كذلك يسعى فوكو الى جمع التصورات الخاصة (الجنونية) باللغة والادب والفن، والتي يعدها لغة غريبة وكلمات خطيرة تشكل آلة حربية، ومادام للغة هذه القدرة على الاختراق والتدمير، دون ان تخضع لقانون، فهي تشكل اداة مقاومة، وهذه الميزة لها علاقة بشخصية الفيلسوف فوكو، وبتأويل معين للتاريخ الادبي، ولشخصيات ادبية خاصة، يعتبر الاديب السوريالي ريمون روسال نموذجاً لها، لما تمتع به من سرية وغرابة وفرادة، فقد جمع بين الجنون والكتابة، وهي الحالة التي مر بها ميشيل فوكو نفسه في مرحلة من مراحل حياته، الامر الذي يجعله قريباً من روسال، بل شديد الصلة به. ثم ان للغة طابعاً وجودياً سابقاً على الانسان كما يرى فوكو، ومن هنا يأتي خطرها، وخطورة ان يفكر الانسان من خلالها. ويعد كتاب «الكلمات والاشياء» لفوكو خلاصة نظرته الفلسفية، وتتويجاً لهذه النظرة ايضاً، اذ يعكس تصوره عبر مستويات ثلاثة هي: المستوى الذاتي والادبي، والمستوى العلمي والتاريخي، والمستوى الفلسفي، حيث ارتبطت اللغة عنده بقضايا فلسفية كالتناهي والكينونة والانسان، وفي هذه النقطة ظهرت خصوصية فوكو مقارنة بنيتشه وهيدجر، وبالتيارين التأويلي والتشكيلي. هذه الخصوصية قائمة على البحث الاركيولوجي في اللغة، وفي تجارب لغوية خاصة كتجربة الجنون والمرض. الا ان هذا التصور للغة لم يشكل الا مرحلة فكرية من حياة فوكو، ارتبط فيها بالادب وبالنزعة البنيوية في بعض اطروحاتها، لينتقل الى مستوى اخر من التحليل بعدئذ، هو مستوى مفهوم الخطاب. ويقدم المؤلف مقاربته هنا في محاولة تهدف الى اظهار الطابع الكلي للخطاب في فلسفة فوكو، وذلك بدراسة منهج هذا الخطاب وسلطته ومختلف الممارسات الخطابية وغير الخطابية في التاريخ، او ما يسميه فوكو بالوجود التراكمي للخطابات ووظائفها في التاريخ، حيث لا يمكننا الفصل بين دراسة الخطاب ودراسة التاريخ. ويشار هنا الى ان فوكو قد خص الخطاب ومفهومه بكتابين اساسيين هما: «اركيولوجيا المعرفة»، و«نظام الخطاب»، وبعض الدراسات الاخرى. ويعرف فوكو الخطاب بقوله: «هو احياناً يعني الميدان العام لمجموع المنطوقات، واحياناً اخرى مجموعة متميزة من المنطوقات، واحياناً ثالثة ممارسة لها قواعدها، تدل دلالة وصف على عدد معين من المنطوقات وتشير اليها. كما يعرفه في موضع اخر بقوله: «الخطاب مجموعة من المنطوقات بوصفها تنتمي الى ذات التشكيلة الخطابية، فهو ليس وحدة بلاغية او صورية قابلة لأن تتكرر الى ما لا نهاية، يمكن الوقوف على ظهورها واستعمالها خلال التاريخ، بل عبارة عن عدد محصور من المنطوقات التي تستطيع تحديد شروط وجودها». هذه العناصر التي سماها فوكو بالمنطوقات او الملفوظات هي التشكيلات الخطابية في مقابل الفروع العلمية، والتي تشكل بدورها ميادين الخطاب، وتكون محكومة بمنظومة التكوين والتحويل. والمنطوق في نص فوكو يعني ذرة الخطاب، او وحدته الأولى وعنصره الاخير، فهو بذلك جزء اساسي من الخطاب، ويستطيع الى ذلك ان يستقل بذاته، اي ليس مشروطاً بالخطاب مع اي جزء منه. والخطاب والمنطوق والتشكيلة الخطابية، اشياء تتنافر وما تعودنا على تسميته في اطار تاريخ الفكر بالنص والاثر والقضية والجملة والمجال العلمي.. فهذه المفاهيم كلها، كما يرى فوكو، لها علاقة بوهم الافكار الاتصالية، وما يريد تأسيسه ودرسه هو تاريخ القطائع والانفصالات، لذلك اعتمد مفهوم الخطاب كحدث تاريخي فريد. ثم ان تحليل الخطاب لا علاقة له بالتحليل الالسني او التحليل المنطقي، سواء من حيث المرجعية او من حيث الهدف. وميزته الاساسية انه تحليل اركيولوجي جينالوجي، يقوم على جملة من المبادئ والمعايير، منها التقرير والاحتفاظ والتملك والتكوين والتحويل والترابط والندرة والتراكم والخارجية (النظر الى المنطوق او الخطاب من حيث انتظامه الخارجي). ان تحليل فوكو وما تميز به سمح بتأسيس مفهوم جديد للخطاب يختلف عن مفهوم القضية والجملة، وكشف عن بعد اساسي في الخطاب هو بعد السلطة، او سلطة الخطاب، وفي الوقت ذاته بين الآليات التي تحكمه وتحد من سلطته، كآلية المنع والرفض والقسمة وارادة المعرفة واشكال التملك والتمذهب، ولتحريره وجب اعتماد بعض المبادئ كالخصوصية والقطيعة والخارجية. ويخرج د. الزواوي الى ان فوكو قد اسس المبادئ الأولية لاتجاه جديد في الدراسات اللغوية والتاريخية والفلسفة، اتجاه قائم على مفهوم معين للخطاب، يتميز بالكلية والتمفصل، ومن خلال شبكة العلاقات التي يقيمها مع موضوعات اساسية في الفلسفة والتاريخ على السواء، مثل المعرفة والسلطة والاخلاق. ويمضي المؤلف في تبيان علاقة الخطاب بالمعرفة، وعلاقته بالسلطة، او بالممارسات غير الخطابية، واخيراً علاقته بالذات، فيتوجه على المستوى الاول الى الكشف عن الارضية التي تقوم عليها المعارف في مختلف الحقب، او المعرفة التي تحكم مجمل الخطابات في زمن معين. وبهذا يؤسس فوكو للأركيولوجيا باعتبارها حقل بحث، موضوعه المعرفة، ومنهجه وصف الممارسات الخطابية وتحليل انظمتها الابستيمية، كما يؤسس منظوراً نسبياً للمعرفة والحقيقة، ويربطهما بارادة المعرفة والسلطة. ويتوجه على المستوى الثاني الى شرح مفهوم السلطة القائم على علاقات القوى ضمن استراتيجيات مختلفة، لا تتجسد في مركز او مؤسسة او ذات، بل هي ممارسات مبعثرة ومنتشرة على الجسد الاجتماعي كله، فهناك علاقة للسلطة بالخطاب وبالمعرفة وبالمجتمع، أو بتصور معين للمجتمع، قائم على الانضباط وسلطة المعيار والمراقبة، وعلاقة ايضاً مع مهمات المثقف الجديد الساعي للتطوير في محيطه الاجتماعي. وعلى مستوى ثالث يبحث المؤلف في علاقة الخطاب بالذات، من خلال خطاب الجنس والاخلاق والجمال، فيدرس جملة من الافكار منها: انه لا يمكن فصل الجنس عن مفهوم الذات وتشكلها وحقيقتها، وتناول كيفية تشكل الجنس في الخطاب وعبر الآليات المعرفية والسلطوية، وان معرفة الذات يكون عبر الاعتراف الذي يمكننا من تشكيل خطاب وتأسيس علاقات سلطوية حول الذات، وان للسلوك الجنسي علاقة بأحد جوانب الذات، وهو الجانب الاخلاقي.. ومن هنا يتم التمييز في فلسفة فوكو بين الاخلاق والسلوك، وما يهتم به فوكو هو الاخلاق كسلوك، الاخلاق في تحققها وتطبيقها، او الاخلاق التاريخية التي تخص مجتمعاً معيناً، وموضوعات متمحورة حول الجنس والجسد ونظام الرغبة. وقد كشف التحليل (تاريخيا) عن اخلاق يونانية ورومانية تميزت بالطابع الرجولي، وكان هدفها على مستوى الخطاب معرفة الذات وتشكلها كذات اخلاقية. وانطلاقاً من التحليلات التاريخية والفلسفية التي قام بها فوكو، بلور مفهوماً للذات اعتبرها شكلاً غير ثابت، نظراً لتغير العلاقات واختلافها، وهذا ما يسمح بالقول بالتشكل التاريخي للذات عبر مختلف الممارسات والتجارب، وعبر علاقات المعرفة بالسلطة. اما على مستوى المكانة التي يحتلها خطاب فوكو في الفلسفة المعاصرة، فيصل المؤلف الى ان الموضوع المركزي في هذه الفلسفة ليس تلك التقسيمات بين الذات والاخر، او بين المعرفة والسلطة والاخلاق، وانما تحديداً الخطاب في التاريخ، باعتباره طريقة لمعالجة جملة الموضوعات الفلسفية، سواء اللغوية او المعرفية او السياسية، معالجة تاريخية. من هذه النقطة يرى المؤلف ان مفهوم الخطاب يعد مدخلاً ضرورياً لقراءة فلسفة فوكو، ومقاربة فلسفية صالحة لمناقشة وتحليل مختلف الموضوعات التاريخية والقضايا الفكرية والثقافية. محمد عبدالواسع

Email