استراحة البيان: في مكتبة عبدالناصر، يكتبها اليوم: محمد الخولي

ت + ت - الحجم الطبيعي

الزعيم عبدالناصر, رحمه الله, كان شغوفا بالكتب حفيا بأي كتاب حديث يصدر في الموضوعات التي كان يؤثر الاطلاع عليها, وكان في مقدمتها كتب التراجم والسير وتجارب الشعوب في مجال التغيير الاقتصادي والحكم المحلي واختراعات الاسلحة الحديثة ومتغيرات السياسة العالمية وتواريخ الحرب الكونية الثانية واشهر معاركها وابرز قادتها فضلا عما يصدر في المكتبة العربية من اجتهادات في التطور الحزبي والفكر السياسي وما الى ذلك ولم يكن يوازي هذا الشغف بالكتب سوى حب عبدالناصر لأفلام السينما, ويحكي الاستاذ حسنين هيكل عن أمسية امضاها الزعيم في احدى دور السينما بالاسكندرية وكان ذلك في اعقاب ضربته الوطنية الكبرى بتأميم قناة السويس, وكانت الاخبار قد وافت باجتماع سوبر ـ خطير دعا اليه سلوين لويد وزير خارجية بريطانيا وقتها يضم جماعات دول المنتفعين بقناة السويس وظل العالم يكتم انفاسه ارتعابا لما قد يسفر عنه الاجتماع الدولي الخطير في لندن, وكانت تلك الساعات المشحونة بالترقب اختار ناصر ان يمضيها في سينما مترو الصيفية في عاصمة مصر الثانية, وعندما سأله هيكل مستغربا عن السبب, اجاب عبد الناصر بما معناه: لم اشأ ان امضي هذه الساعات المتوترة وانا اقضم اظافري! وكانت مكتبة رئاسة الجمهورية بمثابة المرصد المتقدم او فلنقل كانت مركز الاستشعار عن بعد الذي يستخدمه (البعض) في محاولة التنبؤ بمسارات الاحداث وبما قد يستجد من تطورات وكان الفقير كاتب السطور من هؤلاء (البعض) الذين شاء لهم حسن الطالع او المصادفة السعيدة ان يقتربوا من هذا المرصد العتيد, وقد يشهد على ذلك صديقنا القديم الاديب الراحل عبد الواحد الامبابي وكان يقطن (الشارقة) منذ سنوات طويلة وكان في تلك الايام الخوالي امينا لمكتبة رئاسة الجمهورية ايام عبدالناصر وكم كان يأتينا بالاخبار على طريقة اهل الصعيد الاوسط في مصر قائلا: صاحبك (يقصد الرئيس ناصر) يقرأ هذه الايام في موضوع الحكم المحلي, او انه طلب دستور الصين او تجربة تيتو (يوغسلافيا) في التسيير الذاتي.. الخ, وكان (الصديق الامبابي) هو المسؤول عن تنفيذ هذه التكليفات ولم يكن هناك ايامها كمبيوتر ولا انترنت ولا بريد سريع دولي ولايحزنون, بل كان جلب الكتاب من ناشره مهمة شديدة العسر تستوجب مكاتبات وتحويلات بالعملة الصعبة ـ الدولار او الاسترليني ـ وكانت صعبة بحق في ظل اوجه الحصار الاقتصادي الذي كان مفروضا على تجربة عبدالناصر في محاربة الاستعمار الغربي وفي محاولة التنمية والبناء من منطلق الاعتماد على النفس. وحين كنا نعرف ان الرئيس يقرأ في موضوع الحكم المحلي كان لنا ان نتوقع تغييرات في هذا المجال. او انه بدأ يراجع الدستور الصيني او يطلب دراسة مقارنة مع الدستور الامريكي, كنا نتصور انه يستعد لحوار سياسي على مستوى الداخل او الخارج وكم كانت تصدق التوقعات, وربما بدأ عبدالناصر هذا التحصيل الثقافي منذ فترة الطلب في أواخر الثلاثينات واوائل الاربعينات وربما لم يكن في هذا مبدعا ولا حالة فريدة بين ابناء جيله.. ومن يقرأ مذكرات رفيقه في الثورة وفي الحكم الدكتور ثروت عكاشة يعرف كيف كان ناصر الشاب يحب سماع ام كلثوم ثم يسمع ايضا سمفونية شهرزاد لمرمسكي كورساكوف وكيف كان يحلم مع (ثروت) وهما ضابطان في شرخ الشباب بصرح من الثقافة الرفيعة يتم بناؤه يوما لصالح ابناء الشعب, ومن يراجع سجلات مكتبة الكلية الحربية او كلية الاركان اللتين تخرج فيهما (وقد انجز مثل هذه المراجعة باحثون عديدون منهم مثلا الكاتب البريطاني ويلتون واين) يطلع بدوره على تنوع قراءات ناصر الفتى والشاب مابين (كتاب) حياة محمد صلى الله عليه وسلم للدكتور حسين هيكل الى كتاب (الذئب الاغبر ـ كمال اتاتورك) لارمسترونج الى رواية (قصة مدينتين) للروائي الانجليزي الاشهر تشارلس ديكنز. ونستطيع القول ـ وهو ما كتبناه يوما ـ بان ديكنز الذي, رحل عن الدنيا منذ نحو مائة وعشرين عاما (بالتحديد عام 1870) هو الذي انقذ ملك مصر الاسبق فاروق من مصير الموت على يد بعض غلاة المتحمسين من رفاق عبدالناصر ـ قادة ثورة 23 يوليو.. قال بعضهم غداة الاستيلاء على السلطة والاطاحة بالحكومة: لقد ارتكب فاروق من الجرائم بحق الشعب ما يستوجب إعدامه.. وعارض عبدالناصر في الامر وقال لهم ما معناه: اذهبوا اولا واقرأوا (قصة مدينتين) وقد كتبها تشارلس ديكنز عن الثورة الفرنسية.. ساعتها سوف ترون ان الدم لا يجلب سوى الدم.. وان العنف قد يولد عنفا اخطر وانكى.. ورغم ان ثورة فرنسا نادت بشعارات نبيلة في الحرية والاخاء والمساواة فلسوف يظل التاريخ يحاسبها على ما سفكته من دماء في محاكمات واعدامات المقصلة التي راح ضحيتها مئات من ارستقراطيي فرنسا ومعهم بالضرورة كثير من الابرياء.. اتركوا فاروقا يرحل في سلام ولتكن ثورتنا بيضاء بغير عنف أو دماء. ومثلما قرأ عبدالناصر الشاب (قصة مدينتين) وتأثر بها حين رفض دموية الثورة الفرنسية الكبرى عام 1789, قرأ ايضا رائعة توفيق الحكيم (عودة الروح) وتأثر بها ابلغ التأثر حتى انه بادر مع اواخر الخمسينات الى منح توفيق الحكيم واحدا من ارفع أوسمة الدولة في اول سابقة من نوعها يقدم عليها رئيس الدولة بالنسبة لكاتب أو اديب ولاعجب .. فقد كان الشاب عبدالناصر تؤرقه لواعج التغيير وتستبد به رؤى العمل الثوري.. وكانت (عودة الروح) تدور حول ثورة 1919 في مصر وحول انبعاث الروح الوطني.. هادرا بل ومباغتا ومتواصلا يطلب الحرية ويؤكد على الاستقلال ويحرص على الموت من اجل ان توهب له الحياة ولاشك ان عبدالناصر تأثر بهذا كله .. ولاشك ان راعه ذلك التيار الوطني الذي كان يسري مسرى الكهرباء بين طبقات شعبنا في مصر العربية فإذا بهم على قلب رجل واحد واذا بجموعهم في شوارع المدن ومسالك القرى تكاد تشكل ماردا اسطوريا واحدا يرفع الشعار التاريخي العتيد (الاستقلال التام أو الموت الزؤام) وربما ظل هذا المعنى يراود الزعيم عبدالناصر طيلة حياته المكثفة الباهرة وقد عبر عنه قلم الحكيم في تصديره لرائعته (عودة الروح) مقتبسا من أدبيات تاريخ مصر القديمة حين قال (ونحن نمتح من الذاكرة): حين يصير الزمن الى خلود سوف نراك من جديد لانك صائر الى هناك حيث الكل في واحد وربما كانت اضافة عبدالناصر التاريخية هي ان وسع بفضل حسّه القومي من تعريف هذا (الكل) ليصدق على الامة العربية عبر ربوع وطنها الكبير. وحين كان يسأله كاتب او قائد أو صحفي اجنبي عن دوره القيادي في زعامة امته.. كان عبدالناصر ينحي جانبا مقاليد الزعامة والرئاسة ويقول عن اقتناع كان يردده بيقين: (لقد اعطتني امتي فوق ما استحق ومالم اكن احلم به.. وما انا سوى تعبير عن ارادة الامة العربية في مرحلة معينة من مراحل كفاحها) . ***** بالامس القريب وافت الذكرى التاسعة والعشرون لرحيل جمال عبدالناصر الى عالم البقاء, اصاب الرجل واخطأ, ولكنه اجتهد في كل حال.. وكم هو جميل ان نستعيد البيت البليغ الذي ساقه الكاتب والسياسي الفلسطيني عبدالله الحوراني في مقال كتبه مؤخرا عن عبدالناصر والبيت لشاعر العربية الاكبر ابي الطيب المتنبي وكأنما يصف حياة عبدالناصر الحافلة بضروب الجهاد والنضال يقول: فتى مات بين الضرب والطعن ميتة تقوم مقام النصر ان فاته النصر

Email