الحاجة إلى التفسير والتأويل

الحاجة إلى التفسير والتأويل

ت + ت - الحجم الطبيعي

نهضة الأفراد والأمم لا يمكن أن تكون صحيحة عن تجربة ولا سهلة متيسرة ولا رائعة مدهشة إلا عن طريق الاسترشاد بتعاليم القرآن ونظمه الحكيمة التي روعيت فيها جميع عناصر السعادة للنوع البشري على ما أحاط به علم خالقه الحكيم ز وبديهي أن العمل بهذه التعاليم لا يكون إلا بعد فهم القرآن وتدبره والوقوف على ما حوى من نصح ورشد والإلمام بمبادئه عن طريق تلك القوة الهائلة التي يحملها أسلوبه البارع المعجز.. وهذا لا يتحقق إلا عن طريق الكشف والبيان لما تدل عليه ألفاظ القرآن «وهو ما نسميه بعلم التفسير» خصوصاً في هذه العصور الأخيرة التي فسدت فيها ملكة البيان العربي وضاعت فيها خصائص العروبة من سلائل العرب أنفسهم.

فالتفسير هو مفتاح هذه الكنوز والذخائر التي احتواها هذا الكتاب المجيد النازل لإصلاح البشر وإنقاذ الناس وإعزاز العالم. وبدون التفسير لا يمكن الوصول إلى هذه الكنوز والذخائر مهما بالغ الناس في تهذيب ألفاظ القرآن وتوافروا على قراءته كل يوم ألف مرة بجميع وجوهه التي نزل عليها.

وهنا يوضح السر في تأخر مسلمة هذا الزمن على رغم وفرة المصاحف في أيديهم ووجود ملايين الحفاظ بين ظهرانيهم وعلى رغم كثرة عددهم واتساع بلادهم في حين أن سلفنا الصالح نجحوا بهذا القرآن نجاحاً مدهشاً كان ومازال موضع إعجاب التاريخ والمؤرخين. مع أن أسلافنا أولئك كانوا في قلة من العدد وضيق من الأرض وخشونة من العيش ومع نسخ القرآن ومصاحفه لم تكن ميسورة لهم ومع أن حفاظه لم يكونوا بهذه الكثرة الغامرة.

فإن السر في ذلك هو أنهم توفروا على دراسة القرآن واستخراج كنوز هدايته يستعينون على هذه الثقافة العليا بمواهبهم الفطرية وملكاتهم السليمة العربية من ناحية وما يشرح رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبينه لهم بأقواله وأعماله وأخلاقه وسائر أحواله كما قال سبحانه وتعالى: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون).

وعلى ذلك كان همهم الأول هو القرآن الكريم يحفظونه ويفهمونه قبل أن يحفظوه ثم يعملون بتعاليمه بدقة ويهتدون بهديه في يقظة.

فما أشبه المسلمين اليوم بالعطشان يموت من الظمأ والماء بين يديه وبالحيوان يهلك من الإعياء والنور من حوله يهديه السبيل لو فتح عينيه: (ذلك هو الخسران المبين).

ألا إن آخر هذه الأمة لا يصلح إلا بما صلح به أولها وهو أن يعودوا إلى كتاب الله يستلهمونه الرشد ويستمنحونه الهدى ويحكمونه في نفوسهم وفي كل ما يتصل بهم كما كان آباؤنا الأولون يتلونه حق تلاوته في تدبر وتفكر في مجالسهم ومساجدهم وأنديتهم وبيوتهم وفي صلواتهم المفروضة والنافلة وفي تهجدهم بالليل والناس نيام حتى ظهرت آثاره الباهرة عاجلة فيهم فرفع نفوسهم وانتشلها من حضيض الوثنية وأعلى هممهم وهذب أخلاقهم وأرشدهم إلى الإنتفاع بقوى الكون ومنافعه وكان من وراء ذلك أن مهروا في العلوم والفنون والصناعات كما مهروا في الأخلاق والآداب والإصلاح والإرشاد ووصلوا إلى غاية بزوا فيها كل أمم الدنيا حتى قال بعض فلاسفة الغرب في كتابه تطور الأمم ما نصه: «إن ملكة الفنون لا تستحكم في أمة من الأمم إلا في ثلاثة أجيال: جيل التقليد وجيل الحضرمة وجيل الاستقلال. وشذ العرب وحدهم فاستحكمت فيهم الفنون في جيل واحد».

قال السيوطي في بيان الحاجة إلى التفسير ما ملخصة: «القرآن إنما نزل بلسان عربي في زمن أفصح العرب فكانوا يعلمون ظواهره وأحكامه. أما دقائق بواطنه فلا تظهر لهم إلا بعد البحث والنظر كسؤالهم النبي صلى الله عليه وسلم وأينا لم يظلم نفسه؟ حينما نزل قوله تعالى: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) ففسره النبي صلى الله عليه وسلم بالشرك واستدل بقوله سبحانه: (إن الشرك لظلم عظيم).

وكذلك حين قال صلى الله عليه وسلم «من نوقش الحساب عذب» سألته عائشة رضي الله عنها عن قوله تعالى: (فسوف يحاسب حساباً يسيراً وينقلب إلى أهله مسروراً) فقال صلى الله عليه وسلم «ذلك العرض».

مما تقدم يتبين أن فائدة التفسير هي التذكير والاعتبار ومعرفة هداية الله في العقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق ليفوز الأفراد والمجتمع بخير العاجلة والآجلة. ويتبين أن هذا العلم من أشرف العلوم الدينية والعربية إن لم يكن أشرفها جميعاً. وذلك لسمو موضوعه وعظم فائدته. وسمى علم التفسير لما فيه من الكشف والتبيين واختص بهذا الاسم دون بقية العلوم مع أنها كلها مشتملة على الكشف والتبين لأنه لجلالة قدره واحتياجه إلى زيادة الاستعداد وقصده إلى تبيين مراد الله من كلامه كان كأنه هو التفسير وحده دون ما عداه».

ولما كان القرآن منبعاً لجميع المعارف والعلوم بما حواه من كنوز دفينة فلا يكفي إذا القراءة فقط وإنما لابد مع القراءة من دراسة متأنية واعية وعميقة والعلة كما يقول الزركشي: «فالعبارات للعموم وهي للسمع والإشارات للخصوص وهي للعقل واللطائف للأولياء وهي المشاهد للأنبياء وهي الاستسلام وللكل وصف ظاهر وباطن وحد ومطلع».

إعداد: رجاء علي

Email