بمناسبة الذكرى المئوية لميلاده: توفيق الحكيم في دراما القرن العشرين:المفكر(من البرج العاجي).. يحترق بصهد الواقع

ت + ت - الحجم الطبيعي

تحتفل الأوساط الثقافية في العالم العربي بمرور مائة عام على ميلاد مؤسس المسرح العربي الكاتب والأديب والمفكر توفيق الحكيم .. وتنطوي المناسبة على ضرورة مراجعة الفكر العربي ممثلا في أحد رموزه الكبار رغبة في تأمل مسيرة هذا الفكر واستشراف مصيره.. وبالرغم من ان الحكيم أضاف إلى شجرة الأدب العربي فرعا جديدا هو المسرح وظل يضيف إليه ويطوره حتى وصل به إلى الذرى. إلا أن الدور الريادي للحكيم في الفن الروائي لا يقل بحال عن دوره في المسرح فهو مؤلف أول رواية فنية بالمعنى الكامل, ويتفق النقاد على أن روايته (عودة الروح) عام 1933 هي القمة وما قبلها سفوح.. ولم يكن الحكيم أديبا فحسب بل كان مفكرا يصدر عن رؤية للعالم, تبلورت في العديد من كتبه النظرية الفكرية, ومعاركه السياسية, وانعكست بشكل أو بآخر في أعماله الفنية, على المستوى المسرحي والروائي والقصصي. وإذا كان النقاد يؤرخون لمسيرة الحكيم الفكرية والفنية, بعام ,1933 الذي صدرت فيه روايته (عودة الروح) ومسرحيته الأولى (أهل الكهف) . فإن أحدث المعلومات ـ حسب قاموس المسرح ــ تؤكد ان هذه المسيرة بدأت عام 1919 بمسرحية (الضيف الثقيل) وهي مسرحية مخطوطة لم تٌنشر كتبها الحكيم ضد الاحتلال الانجليزي الذي حل على مصر ضيفا ثقيلا, لم يدعه أحد, وظل جاثما على صدرها. بعدها كتب الحكيم مسرحية أخرى عنوانها (رصاصة في القلب) عام ,1931 لكنها لم تظهر على المسرح في ذلك الوقت. ووفقا لهذه المعلومات الجديدة فإن مسيرة الحكيم الفكرية تبدأ عام 1919 بمسرحية (الضيف الثقيل) وتنتهي عام 1985 بكتابه (شجرة الحكم السياسي) . وهو تطور لكتاب وضعه قبل ذلك بسنوات عديدة عنوانه (شجرة الحكم) .. وبهذا الترتيب يكون الحكيم قد ظل قابضا على قلمه لمدة 64 عاما. أنتج خلالها 65 كتابا منها 25 مسرحية وسبع روايات. وعددا كبيرا من الكتب الفكرية, والسير الذاتية, والتأملات الفلسفية, والذكريات السياسية.. وخلال هذه الفترة التي أنتج فيها كتبه, عاصر الحكيم سبعة عهود سياسية منها ثلاثة قبل ثورة يوليو, وأربعة بعدها. فقد تعاقب عليه ثلاثة ملوك, وأربعة رؤساء جمهوريات, وعاش في مصر المحتلة باحتلالين أحدهما شرعي وهو الاحتلال العثماني. والآخر فعلي وهو الاحتلال الانجليزي. كما عاش في مصر الحرة المستقلة التي قوضت الاستعمار. ولهذا عاش الحكيم ثورتين هما ثورة 1919 بقيادة سعد زغلول. وثورة 23 يوليو 1952 بقيادة جمال عبدالناصر. وعاصر حربين عالميتين: الأولى والثانية. ورأى العالم وهو منقسم إلى معسكرين أيديولوجيين مختلفين. أحدهما اشتراكي, والآخر رأسمالي. كما شهد بداية انهيار العالم الاشتراكي. وانبثاق النظام العالمي الجديد بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية.. في الوقت ذاته عاصر الحكيم ولادة الصراع العربي الصهيوني, منذ وعد بلفور, ونكبة فلسطين عام ,1948 والعدوان الثلاثي على مصر عام ,1956 وهزيمة العرب في نكسة ,1967 وحرب أكتوبر عام ,1973 وقبلها حرب الاستنزاف, وأخيرا الاجتياح الاسرائيلي للبنان عام 1982. وكذلك شهد التراجع العربي الذليل أمام اسرائيل بداية بالموافقة على ما سمي بالحل السلمي ثم الصلح مع العدو في مبادرة السادات ومن بعدها معاهدة كامب ديفيد عام 1979 التي أيدها الحكيم ببرقية شهيرة إلى السادات نشرتها الصحف بتاريخ 7/5/1979. ويمكن القول أن دراما الصراع الاجتماعي السياسي التاريخي, والتحولات العاصفة التي شملت معظم عقود القرن العشرين بما أحدثته من دوي هائل في مصر والعالم العربي هذه الدراما كانت الخلفية التي كتب الحكيم أعماله في ظلها. السيرة الذاتية وإذا انتقلنا من العام إلى الخاص. يمكن القول أن توفيق الحكيم, واسمه بالكامل (حسين توفيق إسماعيل أحمد الحكيم) قد ولد في التاسع من أكتوبر عام 1898 في حي محرم بك بالاسكندرية لأب من رجال القضاء المصري, وأم تركية الأصل ثرية اسمها (أسماء بنت سليمان بن ميلاد السيامي) . وبعد حصوله على شهادة البكالوريا التحق بمدرسة الحقوق. فحصل على اجازتها ثم أوفده أبوه عام 1925 إلى فرنسا لاستكمال دراسته العليا في القانون والحصول على الدكتوراه. لكنه انصرف هناك إلى مشاهدة العروض المسرحية, والاستماع للموسيقى الكلاسيكية, والاطلاع على عيون المسرح العالمي, وقراءة الأدب والفلسفة حتى عاد إلى مصر بدون حصوله على الدكتوراه, فعين وكيلا للنيابة (1930 ــ 1934), ثم نقل مفتشا للتحقيقات في وزارة المعارف. وفي عام 1937 نقل مديرا لإدارة الموسيقى والمسرح بالوزارة. ثم مديرا للدعاية والارشاد بوزارة الشؤون الاجتماعية. وفي عام 1944 استقال من عمله الحكومي وانضم إلى هيئة تحرير أخبار اليوم عند افتتاحها, وفي الفترة من 1951 ــ 1954 عين مديرا لدار الكتب المصرية. وانتخب عضوا عاملا بمجمع اللغة العربية عام 1954. وفي عام 1956 عين عضوا متفرغا بالمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب. فرئيسا للجنة القصة بالمجلس حتى عام 1959. بعدها عمل مندوبا لمصر في منظمة اليونسكو بباريس. ثم رئيسا للقسم الثقافي بجريدة الأهرام. وانتخب كأول رئيس لاتحاد الكتاب عام 1976. وعين عضوا بمجلس الشورى. وقد حصل الحكيم على قلادة الجمهورية عام 1957. وجائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 1960. كما حصل على وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى في نفس العام. وفي عام 1975 حصل الحكيم على قلادة النيل. والدكتوراه الفخرية من أكاديمية الفنون. ورحل في 26 يوليو 1987. المنهج الصوري إذن فقد عاش الحكيم 90 عاما تقريبا. كتب خلالها القصة, والرواية, والمسرحية, والنقد الأدبي, والاجتماعي والمقالة السياسية, والفلسفية والسيرة الذاتية والتأملات. وحاول جاهدا أن ينحت لنفسه مذهبا في الحياة والأدب وأن يبنيه لبنة فوق أخرى. وخاض معارك السياسة والأدب والفكر, مرة بشكل سافر لا تستطيع طبيعة الفكر ووضوحة مداراته, ومرات من خلال أقنعة الفن وغلالاته الشفافة, ويمكن القول باطمئنان ان الحكيم من خلال هذه المسيرة الطويلة, يمثل ظاهرة فكرية لها سياقها العام, الذي تنتظم حوله الجزئيات المتناثرة. ولها تناقضاتها العارمة, وصراعاتها الداخلية وتقلباتها من النقيض إلى النقيض. وإذا كنا لا نستطيع أن نختزل توفيق الحكيم في رواية واحدة مثل (عودة الروح) ,1933 هي رواية رائدة يحرض مضمونها على بعث مصر من مرقدها وبث الروح فيها من جديد. وذلك من خلال التفاف شعبها كله حول زعيم قوي عادل. وهي الرواية التي تأثر بها قادة ثورة يوليو, وعبر عبدالناصر أكثر من مرة عن هذا التأثر, لما تحمله من تبشير مبكر بثورة مصرية تقوم على فكرة (الكل في واحد) . إذا كنا لا نستطيع أن نختزل مسيرة الحكيم في مثل هذه الرواية. فإننا أيضا لا نستطيع أن نختزلها فلي كتاب (عودة الوعي) 1972. وهو كتاب يهاجم نفس الثورة التي بشر بها مرارا. وساند أهدافها بكل أعماله السابقة عليها واللاحقة لها.. وآفة اختزال المفكر في فكرة واحدة أو كتاب واحد أو موقف واحد هي آفة المنهج الصوري, الذي يقتطع الأقوال من سياقها. والأجزاء من ترابطها الكلي. ويعمى عن رؤية التناقضات داخل الظاهرة الواحدة. ومن ثم لا يرى حركتها وآليات الصراع والوحدة فيها.. إذن فلا الحكيم هو (عودة الروح) ولا (عودة الوعي) , ولا هو (عصفور من الشرق) , أو (يوميات نائب في الأرياف) , أو (أهل الكهف) أو (السلطان الحائر) , أو (تحت شمس الفكر) , أو (بنك القلق) , أو (التعادلية) , أو (من البرج العاجي) أو (الطعام لكل فم) أو (زهرة العمر) أو (سجن العمر) أو (شجرة الحكم) أو (بجماليون) , أو (الأيدي الناعمة) , أو (شمس النهار) أو (عصا الحكيم) , أو (حمار الحكيم) أو (الصفقة) أو (يا طالع الشجرة) .. إنه هذه الأعمال كلها وغيرها. إنه 65 كتابا جملة واحدة, بكل ما ينتظم المسيرة من تناقضات تعكس السمة الأساسية لسيرورة الحركة والتطور في مسيرة مفكر كبير. من البرج العاجي ولعل الطابع الذهني التجريدي التعميمي الذي يطبع مسرحيات الحكيم خصوصا في مرحلتها الأولى, حيث يتحول الصراع داخل المسرحية من صراع بين شخصيات, إلى صراع بين أفكار, لعل هذا الطابع هو الذي أوعز لنقاد الحكيم بأنه كاتب منعزل عن المجتمع, وما يعتمل في داخله من صراعات, وانه يهوى الكتابة من (برج عاجي) , بعيدا عن صهد الواقع ومعاركه الحارقة. ولقد ظل الحكيم لسنوات طويلة رمزا عند هؤلاء للكتابة من البرج العاجي.. مما دفعه للرد في كتاب جعل عنوانه (من البرج العاجي) أصدره عام 1941. غير ان اختبار هذه الفكرة ــ فكرة الكتابة من البرج العاجي ــ في أعمال الحكيم يمكن أن يفضي إلى نتائج معاكسة إلى ما ذهب إليه النقاد.. صحيح ان الحكيم بعد عودته من فرنسا وإلى سنوات طويلة كانت ثقته في النظام البرلماني والديمقراطية والأحزاب والانتخابات, كما شاهدها في مصر ثقة مهتزة تماما. وقد عبر عن هذا الاهتزاز في كتابه (شجرة الحكم) عام 1938 وقال: إن النظام السياسي البرلماني القائم هو الأداة الصالحة لتخريج حكام غير صالحين, ولقد دفعه هذا الفهم إلى عدم الثقة في الشعب (الناس عندنا قصيرو النظر ولن يرو المبادئ إلا وهي ترتفع فوق الكراسي) . غير ان المتأمل لهذا الكتاب سوف يخرج بنتيجة أساسية يؤكدها غالي شكري وهي ان الحكيم لم ينتبه إلى ان الاحتلال الانجليزي هو سبب فساد النظام السياسي لانه صاحب السلطة الفعلية في البلاد. وان الرجعية والعرش وكبار الملاك وحكومات مثل حكومات زيور ومحمد محمود وإسماعيل صدقي لم تكن إلا صنيعة للانجليز, لم ينتبه الحكيم العائد من باريس أن الفرق بيننا وبين الغرب فرق حضاري. وان لدينا استبدادا واستعبادا طويلين. وعندما كان يحاول الشعب في لحظات نادرة أن يختار حكومة ديمقراطية تمثله من خلال الاقتراع الحر, يعصف بها الاحتلال أو العرش لتجد نفسها خالية الوفاض من السلطة. وتعود أدراجها إلى الفراغ السحيق من العدم, لم يكن النظام البرلماني والديمقراطي والأحزاب والانتخابات إلا حبرا على ورق لان ذلك كله لم يكن قائما إلا على حجر الاستعمار, والنظام الملكي بكل فساده. هذا ما لم ينتبه إليه الحكيم في (شجرة الحكم) حتى يتمكن من رفد قناعاته ضد النظام السياسي بحجج منطقية تعود إلى أصل الداء وليس إلى مظاهره. سلطان الظلام لكن الحكيم قد تجاوز هذه المسألة في كتابه (سلطان الظلام) 1941 وهو كتاب يعكس تحولا هاما في فكره ويعكس صدمته القوية بالحضارة الغربية التي أفضت إلى حرق العالم في الحرب العالمية الثانية.. يقول الحكيم: (تلك هي أعنف صدمة هزت نفسي في السنوات القلائل التي تلت الحرب الكبرى الأخرى.. لقد كنت ممن يؤمنون بأطراد التقدم الإنساني.. لقد كنت أتابع وقت ذاك آمال الساسة والكتاب.. كنت غارقا في تلك الأحلام التي نسجها لنا هداة البشر وقادته الروحيون من الرسل والشعراء والمفكرين.. لقد كنت موقنا بأن الأوان قد آن لزوال الحواجز بين الأمم, وانقضاء عهد القبائل الوحشية التي يسمونها دولا) . وفي موضع آخر يفسر الحكيم عزوفه عن العمل السياسي المباشر مؤكدا أن عزلته ليست عن السياسة نفسها ولكن عن السياسيين وليست عن المجتمع وإنما عن أحزاب ذلك الزمان يقول: (فإن تكوين الأحزاب بعد ثورة 1919 على ذلك النحو الذي حدث. وتنافسها على اقتسام واقتناء أصحاب المال والجاه وكبار الملاك, وضمهم إلى عضويتها, جعل قيادات هذه الأحزاب في أيدي تلك الطبقة. ولم تسمح للمفكرين والمثقفين الحقيقيين إلا بالمراكز الثانوية التي ليس لها حق التوجيه. ومن هنا ضعف الدور الفكري والاجتماعي لهذه الأحزاب واقتصر نشاطها على الجانب السياسي. وحتى هذا الجانب أيضا قد تمخض أحيانا كثيرة عن مجرد تطاحن على كراسي الوزارة, وتنازع على ثمار شجرة الحكم. وهو ما كان يهم أكثر تلك القيادات. أما الكاتب المفكر المثقف في نظرها فكان في الأغلب مجرد قلم يستأجر للدفاع عن وجهة نظرها, والهجوم على خصومها. وكان هذا ما نفرني وأبعدني عن هذه الأحزاب. وما جعلني أقف ضدها جميعا. وأرى كل شيء يتحرك من حولي داخل اطار سياسي كاذب مزيف) . الحكيم إذن بصفته كاتبا مثقفا, فنانا اختار لنفسه عدم المشاركة في لعبة رأى أنها زائفة, لكنه اختار في الوقت ذاته أن ينتقدها. وهو موقف سياسي يعصمه من تهمة العزلة, والكتابة من (البرج العاجي) , فالكاتب المنتمي يمكن أن يشارك الجماهير ثورتها وهو مستقل عن الأحزاب السياسية. وفي كتاب (من البرج العاجي) الذي صدر عام 1941 يدحض الحكيم هذه المقولة التي التصقت به ويقول: (البرج العاجي عند أكثر الناس معناه اعتصام الكاتب بالسحب اعتصاما يقصيه عن أحداث الدنيا وحقائق الوجود وهذا غير صحيح على الأقل بالنسبة إلي. فما من حدث استوجب تحرك القلم إلا حرك قلمي. وما من أمر هز البشرية إلا هز نفسي. بل ما من قضية من قضايا الحياة الكبرى التي تمس الإنسان وتطوره وتقدمه إلا شغلتني ودفعتني إلى الجهر بالرأي حتى في النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية) . وفي كتابه (حماري قال ليّ) 1945 هاجم الحكيم الفاشية والنازية باعتبارهما فكرتين معاديتين للحرية وشرح باستفاضة جذور الفكرتين وما يمكن أن تفضيا إليه من كوارث ضد البشرية وضد الديمقراطية وضد التقدم. وفي نفس الكتاب تحت عنوان (حماري والسياسة) يقدم الحكيم نقدا ذاتيا لنفسه إذا كان قد تقاعس يوما عن المشاركة في أحداث الوطن. يقول: (الواقع انها كانت سبة أن يجلس أمثالنا هكذا ينظرون إلى أحداث بلادهم ولا يحركون رأسا ولا ذنبا. نحن الذين نشأنا في هذا البلد, ونعمنا بخيره وخميره ورعينا برسيمه ونخيله وشربنا من ماء نيله كان حكما علينا أن يكون لنا يد في مصيره) . وفي مقال له نشر في 11 سبتمبر عام 1946 حرض الحكيم على الثورة المسلحة ضد الانجليز وطالب بالتأميم واشراك العمال في إدارة الشركات والقضاء على هيمنة رأس المال على الحكم, وظل الحكيم منذ ذلك الوقت حتى قيام ثورة يوليو 1952 مبشرا بكل أهدافها محرضا عليها داعيا الناس للالتفاف حولها. القاهرة ــ فتحي عامر

Email