محاورات أفلاطون

ت + ت - الحجم الطبيعي

بيان الكتب: عندما نقل بنيامين جويت محاورات افلاطون الى الانجليزية، اختص هذه المحاورات الاربع بكتاب مستقل، لانها تصور حياة سقراط تصويرا دقيقا، او لعل افلاطون قد اضاف اليها من فنه ما خلع ، على تلك الحياة ثوبا من الكمال، فنحن لا ندري اهو يسوق في المحاورات الثلاث الاولى اقوال سقراط بنصها التاريخي ام ينسج فيها بخياله صورة تمثل شخصية استاذه تمثيلا صحيحا، كما يفعل الروائي بأبطاله، ومهما يكن من امر، فقد جاء سقراط كما كان في حياته: كثير السؤال، قليل الجواب، حاضر البديهة، لاذع السخرية، يحاور محدثه ويداوره، آخذا بزمامه الى غاية قصد اليها ودبر لها الحديث. وفي «فيدون» وهو رابع المحاورات في هذا الكتاب، جانبا آخر من الفيلسوف ففيه صورة من سقراط في نزعته المثالية وفلسفته الروحية التي بدأت عنده وبلغت اوجها في تلميذه افلاطون. وفي «اوطيفرون» وهو الحوار الاول يقدم لنا افلاطون استاذه سقراط في ثوب المعلم الذي حاول بما اوتى من قوة الجدل ان يوقظ الناس من سباتهم، فلا يسلمون تسليما اعمى بما ورثوه من آراء لم توضع على محك البحث والاختبار، وهو يحاول ان يثير فيهم حب البحث في معاني الاحكام التي يرسلونها ارسالا عن ايمان ساذج وغرير في مسائل الاخلاق، فنراه يلتمس مع محدثه تعريفا للتقوى لكي ينتهي بمحاوره الى العقيدة بضعف الاساس الخلقي الذي يقيم عليه دعاة تعدد الآلهة مذهبهم، فهو يرى بعد البحث ان الفعل لايكون صالحا الا اذا صادف قبولا من الآلهة جميعا، ومن ثم ينشأ اشكال آخر يقول: هل يكون الفعل صالحا لانه يرضي الآلهة، ام ان الآلهة ترضى عنه لانه صالح؟ فاذا صح الفرض الاخير كان تعريف التقوى هو انها جزء من العدالة ـ ولكن العدل بصفة عامة يتعلق بما نلتزم به نحو الناس من واجبات، ولا شأن له فيما بيننا وبين الآلهة من صلة وهنا نغوص في تحليل للموضوع، فهل تقتضي خدمتنا للآلهة واجبات خاصة غير الواجب الاجتماعي؟ ثم يختتم الحوار بنتيجة تبدو سلبية في مظهرها، وهي ان التقوى تنحصر في فعل مايرضي الآلهة وهو نفس التعريف الذي قرر المتحاوران رفضه في البداية باعتباره ناقصا لايفي بالغرض، ولكننا بالتدقيق سندرك ما انتهى اليه البحث من ان التقوى ليست هي الاخلاق ولكنها مظهرها الديني فحسب. اما في «الدفاع» وهو الحوار الثاني الذي ساقه افلاطون، ولاندري اهو نص صحيح لما نطق به افلاطون امام قضاته لدى محاكمته، ام ان افلاطون قد انشأه انشاء ليصور به دفاع سقراط، او ماكان يجب ان يقوله سقراط في دفاعه، ففي هذه المحاورة يبسط سقراط لقضاته طبيعة الرسالة التي كلفته الآلهة بأدائها، فكأنما ارسل ليوقظ الاثينيين من رقادهم، وليحملهم على التأمل في معنى حياتهم، اذ هم يعيشون في جهالة يزيد من ظلامها ما يتوهمونه في انفسهم من علم ومعرفة ويسلم سقراط في حوار الدفاع بان هناك غرضا خلقيا واحدا من ا جله ينبغي ان يحيا الناس اذا ماعرفوا طبيعته، فكل الناس ينشدون الخير، اما المال والشرف والمنزلة الرفيعة بين الناس فليست تستحب الا لانها وسائل للخير، وخير للمرء ان يموت من ان ينزل عن اداء واجبه، نعم ان الموت بلاء فادح، ولكن سقراط ينظر اليه بعينين صافيتين، ويرى انه لاينبغي ان يخشى جانبه: لانه اما ان يكون حالة من اللاشعور، فلا بأس فيه او اننا سنلتقي فيه بخير الرجال والنساء الذين عاشوا فيما مضى، وكلتا الحالتين لاتبعثان على الخوف. واما الحوار الثالث «اقريطون» فهو في السجن وسقراط يرقب منيته، واقريطون صديقه الحميم الى جواره يستحثه على الهرب والفرصة سانحة قبل ان ينفذ فيه الحكم بالموت، ولكن سقراط لا يستجيب لدعوته ويأخذ في تحليل الموقف كما هو شأنه دائما. فالغاية التي ينشدها الانسان ليست مجرد الحياة، ولكنها «الحياة الطيبة» اي ان يملأ حياته بالأعمال الصحيحة القويمة، وهاهو قد تعاقد مع الدولة على الا يقترف في حياته مامن شأنه ان يضعف هيبتها، فلا يجوز له اذن ان يحنث بعهده لكي يربح سنوات قليلة من حياة لاغناء فيها بفراره خشية الموت؟! لم يرد افلاطون بهذا الحوار ان ينبيء برفض سقراط للهرب من الموت وكفى، بل قصد كذلك ان يبرئه مما اتهم به، فقد سبق واعلن في حوار «الدفاع» انه سيؤدي رسالته مهما كلفته من عناء ومهما اوذي في سبيلها من ذوي السلطة والنفوذ اذ هو بأدائه لتلك الرسالة انما يطيع امر الله، وطاعة الله عنده خير من طاعة الانسان. اما الحوار الاخير «فيدون» فيسمو الى عالم تجلت فيه عظمة سقراط حين دنا من الموت ونتتبع فيه الفلسفة السقراطية في تدرجها حتى بلغت مرتبة المثالية الافلاطونية في كمالها. فهذا حوار يدور بين سقراط واصدقائه الذين التفوا حوله في ساعاته الاخيرة، فدار البحث بين الاستاذ وتلاميذه حول خلود الروح، ويقيم سقراط على ذلك براهين عديدة بناها على بقاء الاشياء ومقدرة النفس على ادراك ذلك البقاء، فما دام العقل في تفكيره لايقف عند المظاهر الحسية المتغيرة بل ينفذ الى قوانينها الخالدة الكامنة وراءها، فلابد ان تكون طبيعته شبيهة بطبيعة هذه الاشياء، اي ان له وجودا لا يخضع للتغير والفناء، والاولى ان يعتبر الموت خلاصا للعقل من ضعف الجسد الذي كان يحول بينه وبين رؤية حقائق العالم المثالي ـ اي العالم العقلي ـ في وضوح وجلاء. وعندما اعترض تلاميذه بان الروح تعتمد في اداء عملها على حياة الجسم، يرد عليهم اعتراضهم وينتقل الى المقارنة بين نظرية المثل وبين المذاهب الطبيعية التي ذهب اليها اسلافه من الفلاسفة والتي لم تحاول ان تبين ان الخير هو الغاية من الكون. ويختتم حواره بصورة خيالية للحياة الاخرى بما فيها من ألوان الثواب والعقاب معترفا بان تلك الصورة ليست الحقيقة الحرفية لما سيكون، ولكنها تدل على اتجاه الحقيقة لا اكثر ولا اقل. هذه المحاورات هي اقرب الى مأساة نثرية سطرها افلاطون ليصور بها خاتمة استاذه سقراط، فيها مميزات شخصية سقراط واضحة بارزة، تحمسه وحريته الفكرية وتجرده عن الهوى في بحثه عن الحقيقة. ومن الجائز ان تكون بعض التفصيلات التي وردت في المحاوره عن موته صحيحة غير ا ننا نلاحظ ان العبارة التي ذكرت في النهاية على انها آخر مانطق به سقراط ـ اي حين يطلب الى اقريطون ان يضحّي من اجله ديكا شكرا على شفائه من مرض الحياة الممض الطويل ـ هذه العبارة لا تدل على عقيدة سقراط، ولكنها سيقت لتشف عن روح الفكاهة التي عرف بها الفيلسوف. فاروق خلف

Email