«المعانقات» و«الكلمات المتجولة» في نصوص اداورد وغاليانو

ت + ت - الحجم الطبيعي

الخميس 27 ذو القعدة 1423 هـ الموافق 30 يناير 2003 تتوجه لغة البوح في عصرنا الراهن، إلى إتخاذ شتى السبل لغرض التعبير عن الكامن في الذاكرة والإحساس، ومثل هذا التوجه العميق، يجد حرجاً وقيداً أمام وجود الأجناس الأدبية المعروفة، الأمر الذي يجعله يتوق يسعى بشكل حثيث للخروج من الأطر التقليدية لهذه الأجناس.. وصولاً إلى لغة شمولية شفافة، تتيح لصاحبها أن يتكلم بدون حواجز من شأنها أن تحول دون هذا الأفق الذي تتيحه النصوص المفتوحة للمبدع وللمرسل بشكل عام. ومن النصوص الإبداعية المثيرة والنابهة والذكية والعميقة التي تجعلنا نتأملها بفتنة ووعي، تلك النصوص التي أصدرها الكاتب الارغواني: إداوردو غاليانو في كتابين هما: (كتاب المعانقات) و(كلمات متجولة). هذه تقدم كاتباً على ثقافة شمولية ومتنوعة، فضلاً عن دقة وإيجاز العبارة التي يقوم باستخدامها ويقدمها بكثافة كلية، خالية من الاطناب والزوائد والثرثرة التي لا جدوى منها. ففي (كتاب المعانقات) نقرأ له هذا النص الذي يحمل عنوان: (نبوءات/ 2): «حلمت هيلينا بحافظات النار، خزنت أكثر النساء فقرا النار بعيداً عن مطابخ في الضواحي وكان عليهن أن ينفخن في راحات أكفهن بلطف شديد فحسب لكي يشعلنها من جديد» مثل هذه الصورة أو اللقطة، تقدم لنا فعل النار كمادة، وفعلها كحياة وإرادة وإنتاج يسري في ذاكرة الناس.. مما يجعلنا نحس بأكتواء النار من جهة، ودفء النار من جهة أخرى. وفي نص (البيروقراطية/ 1) نتعرف على السجين الذي فرض عليه بأن يسير في صف واحد مع بقية السجناء وأيديهم خلف ظهورهم.. لكنه كان بذراع واحدة.. سجن في مرحلتين وحين طلب إعادة ذراعه، فوجيء بأن تلك الذراع كانت خاضعة لسلطة أخرى وفيما كان قد حوكم في محكمة عسكرية، حوكمت ذراعه كمدني! هنا نجد حالة رهيبة من تجزئة الإنسان الواحد، ومحاكمة كل جزء على انفراد.. وقد تم اختيار أو تخيل مثل هذا الحدث، بقصدية واضحة الدلالة والتي يراد منها إدانة البيروقراطية والعنف والارهاب ضد الإنسان.. وجاء اللامألوف هنا بمثابة مألوف تام لواقع قاس ومّر. وفي (جوع/ 2) نقرأ النص كاملاً: «نظام عزلة: إبحث عن رقم واحد. جارك ليس أخاً لك أو حبيباً. جارك منافس، عدو، عائق يجب إزاحته أو شيء يجب استخدامه، لا يغذي النظام الجسد أو القلب: حكم على كثيرين: بالتضور جوعاً بسبب غياب الجنز، وعلى أكثر منهم بغياب المعانقات». فالجوع على وفق ما طرحه غاليانو، ليس جوع المعدة وحسب، وإنما كان هناك جوع آخر إلى الحياة، وإلى المعانقات التي تمنح الروح ألقاً وسعادة.. هذا الجوع الذي يصعب إشباعه بسهولة، ويصعب على المرء إهماله أو تجاوزه.. إنه جوع الى معانقة الحياة نفسها. وعندما نقرأ نص: (تاريخ مدينة نيويورك) نكتشف طبيعة مدينة قاسية، قائمة أساساً على إرهاب الآخرين.. «ففي هذه المدينة، يجب أن تستخدم قوة وحشية للدخول في أي مكان ـ ينبغي أن تدوس على شخص آخر أو أن يدوس عليك: سيسير عليك تماماً وأنه يعيش هذه الحياة منذ أن كان طفلاً. هل سمعت جيداً، منذ أن كان طفلا وخرج من الاكوادور ـ وروى لي ان امرأته داست عليه لتوها..». نيويورك بهذا المعنى، مدينة إرهاب وقتل وجريمة ولا إنسانية، والوجود في اضوائها، وجود للأقوى، وليس للأكثر وعياً، وإنسانية، وضرورة. نيويورك.. تربي اطفالها على تفهم هذا المعنى، معنى أنه لا تقوم للمرء قيامة مالم يقوى على سواه، ينافسه ويتفوق عليه بالقوة وحدها. فإذا كان هذا في نيويورك نفسها، فكيف يكون الناس في بلدان العالم.. بنظرها؟! ونتأمل نص: (الليل/ 1) كما ورد: «لا أستطيع أن أنام، هناك امرأة عالقة بين جفنيّ، سأقول لها أن تخرج إن تمكّنت، لكن هناك امرأة عالقة في حنجرتي». امرأة تملأ النظر.. ليس بوسعها أن تغيب، وليس بوسعه أن يغيبها متى شاء.. ذلك أن امرأة مثلها تتعلق بالأنفاس، فكيف يمكن ان نحول بينها وبين احداقنا، بينها وبين حناجرنا.. هذا الاحساس العميق، يقدمه غاليانو إلينا بوعي تام وإحساس عميق أمام امرأة نحبها ونتوق إليها.. وبالتالي تصبح منتمية الى وجودنا كلياً. وفي نص: (مفارقات) يكشف غاليانو عن جملة من هذه المفارقات التي تجعلنا نقف ونحن في حالة دهشة أمام حقائق تلك المفارقات: فنابليون لم يكن فرنسياً، وستالين لم يكن روسيا، وهتلر لم يكن المانياً وإنما ولد في النمسا، ومارغريتا سارافاتي المرأة التي أحبها موسوليني المعادي للسامية، كانت يهودية.. والنحات اليخادينهو، الأكثر دمامة بين البرازيليين.. ولدت من بين يديه أعظم ملكات الجمال البرازيليات، والسود الأميركيون الشماليون، أكثر البشر تعرضاً للاضطهاد، أبدعوا الجاز» أكثر أنواع الموسيقى تحرراً.. من هذه المفارقات التي يوردها غاليانو، يمكن أن نتبين جملة متناقضات متضادة مع بعضها، إلا أنها في الوقت نفسه، يمكن أن تتفق على هدف، على فهم الآخر واستيعابه، وبالتالي القبول به والاستجابة لمعطيات.. وفي نص: (في مديح الحس العام) نتعرف على مدينة أرميرو التي محيت عن الخارطة عام 1985 بسبب البركان الهائل.. في وقت كان البركان يحذر طوال عام كامل.. ببصق النار، والقصف بالرعود، والمطر الرمادي. لكن الحكومة لم تجد سبباً للذعر، والكاهن والأسقف قالا إن الله يتولى مسئولية الجميع، أما الجيولوجيون وعلماء البراكين فقد ذكروا أن كل شيء تحت السيطرة وليس هناك خطر.. لكن المدينة، تلاشت من الحضارة! إن الحس العام هنا، كان يؤشر لكارثة المستقبل، ولم يكن إحساس الحكومة والكهنة وخبراء البراكين يمتلكون مثل هذا الحس. وإلا كانوا قد تنبهوا الى حقائق الأمور وأنقذوا المدينة من الهلاك الذي غيبها كلياً. وتحت عنوان: (ثقافة الارهاب/ 7) نقرأ النص كاملا: «الاستعمار الواضح يبترك دون تنكر، يمنعك من الكلام،ومن الفعل، أو من الوجود، أما الاستعمار اللامرئي، على أي حال، يقنعك أن القنانة هي قدرك والعجز طبيعتك، يقنعك أنه ليس من الممكن الكلام، وليس من الممكن الفعل، وليس من الممكن الوجود». وفي حقيقة الأمر، نعرف جيداً أننا نواجه الاستعمار الواضح واللامرئي معاً.. مما يجعلنا نواجه حالة مدمرة من إرهاب معلن ومستتر معاً.. إرهاب يتخذ من (الثقافة) سبيلاً لأرهاب الآخرين عن طريق قتل المعطى الإنساني ومن ثم قتل الحياة كلياً! ونتوقف عند (النظام/ 2) حيث يكشف غاليانو عن عصر الحرباء التي تتقن فن الأختفاء، وثقافة القناع واللغة المزدوجة والحساب المزدوج والاخلاق المزدوجة أخلاق للكلام، وأخلاق للفعل، واخلاق الفعل تدعى الواقع! يقول غاليانو: «قانون الواقع هو قانون السلطة، وهكذا ينبغي ألا يبدو الواقع غير واقعي» واولئك المسئولون يقولون لنا، إن الأخلاق يجب أن تكون غير أخلاقية». الواقع هنا، واقع افتراضي، إلزامي، يسير باتجاه حربائي يلّون نفسه بأتجاه ما يلزم، وليس ما ينبغي أن يكون عليه الواقع وتحتمه الاخلاق وتؤكده المواقف. ويقدم لنا غاليانو في نص (الأزهار) حدثاً مهماً في حياة الكاتب البرازيلي: نيلسون ريدريغويز الذي كان محكوماً بالوحدة لدمامة خلقته التي تشبه ضفدعة ولسان أفعى.. نيلسون هذا فتنته امرأة كانت تدعي اليونورا.. فراح يرسل إليها الازهار كل يوم، دون أن يكرر لوناً أو رائحة.. ويراقب الشرفة.. حيث ترمي اليونورا الأزهار في الشارع لتسحقها السيارات.. وبعد أن استمر الوضع خمسين يوماً، لم ترم فيه الازهار.. عندئذ، قرع نيلسون الجرس وانفتح الباب. بهذا المعطى الإنساني الدافق، قدم غاليانو المشاعر الإنسانية عندما ترق وتصبح التقاء حميماً ينبه ويتحرك ويعلن عن ضرورته واستجابته وإرادته.. ونتأمل (التحدي)/ النص الذي يبدأ بهذه العبارة: «لم ينجحوا في جعلنا مثلهم» وكان الناسس في الزمن الديكتاتوري في الأوروغواي: يتناولون الخوف بدلا من طعام الأفطار، والخوف بدلاً من الغداء.. والعشاء.. لكن هؤلاء الناس لم يصبحوا مثلما يرد خصومهم.. فقد كان حجم التحدي أكبر وأهم بكثير من حجم التمني والترف. فالشعوب إذا ارادت ان تكون حرة، ضحت وتخلت عن أبسط مستلزمات الحياة من أجل الوصول الى حياة جديدة، حياة أناس لهم ارادتهم وحضورهم. وعندما ننتقل الى الكتاب الثاني لغاليانو: (كلمات متجولة)، نجد أنفسنا أمام نصوص قصيرة موحية، لا تختلف كثيراً عن (كتاب المعانقات) بكثافة لغتها، وإحاطة نصوصها بجوانب وصور حياتية دائمة العمق وباذجة المعنى ومشرقة العطاء، كأنما تحلق بأجنحة كلمات عذبة.. ذلك ان الكلمة عنده تعني الروح وأن: «كل من يكذب أو يبدد الكلمات يخون الروح» كما ورد في نص (نافذة على الكلمة/ 3). وفي نص (نافذة على الديكتاتوريات اللا مرئية) نقرأ: «الأم المضحية تمارس دكتاتورية العبودية/ الصديق الموسوس يمارس ديكتاتورية أعمال المعروف/ الفضيلة تمارس ديكتاتورية الديون/ الأسواق الحرة تسمح لنا أن نقبل الأسعار المفروضة علينا/ حرية التعبير تسمح لنا أن نصغي لاولئك الذين يتحدثون باسمنا/ الانتخابات الحرة تسمح لنا أن تختار المرق الذي نطبخ به». اللعب ممنوع، والطعام ممنوع.. الممنوع قائم ومرفوض وملزم على كل شيء.. ولكن مع ذلك هناك إمكانية للتحدي، وتجاوز الممنوع.. والقدرة على الغناء. على هذا النحو يقدم غاليانو المواقف الإنسانية وهي في أدق وأحرج أمورهم، معلناً صورة البهاء في قلب أكثر الاشياء قسوة ودماراً. ونتوقف عند نص عذب يحمل عنوان: (قصة أنبعاث الببغاء) حيث نتبين سقوط ببغاء في إناء يتصاعد منه البخار.. فأذا بالأشياد المحيطة كلها تقف معه وتعينه على تجاوز محنته حتى وجدنا في نهاية الأمر أن: «الببغاء الذي ولد من الحزن امتلك ريشا أحمر من النار/ وريشاً أزرق من السماء، وريشا اخضر من أوراق الشجرة/ ومنقاراً قاسياً من الحجر وذهبياً من البرتقالة/ وامتلك كلمات إنسانية لينطق/ وماء من الدموع ليشرب وينتعش/ وامتلك نافذة مفتوحة للهرب/ وفعل ذلك هارباً في عصفة الريح». وواضح ان تقديم غاليانو للبغاء، تقدم لإنسانية الإنسان عندما يعينه الآخرون على قيادة الحياة وتجاوز إشكالات الأخفاق والمحن. نص يكثف كلماته، باتجاه صياغة جملة معبرة موحية.. تبوح بالسري الكامن في داخلها. أما نص: (نافذة على رجل ناجح) فقد جاء فيه: «لا يستطيع أن ينظر الى القمر دون أن يقيس المسافة/ لا يستطيع أن ينظر الى شجرة دون أن يفكر بالحطب/ لا يستطيع أن ينظر الى لوحة دون أن يحسب السعر/ لا يستطيع أن ينظر الى قائمة طعام دون ان يحسب الحريرات/ لا يستطيع أن ينظر الى امرأة دون أن يحسب حساب المجازفة». وتتغير المفاهيم في نص (نافذة على الجسد): «تقول الكنيسة: الجسد خطيئة/ يقول العلم: الجسد آلة/ تقول الاعلانات: الجسد مشروع تجاري/ يقول الجسد: أنا مهرجان». وجهات النظر نحو الجسد متباينة، وكل يأخذ ما يلزمه ويعبر عنه.. لكن الجسد نفسه لابد أن يكون مدركا ذاته.. إنه مهرجان هذا الكون الذي يحتفل بحضوره وأهميته. و.. يفتح غاليانو (نافذة على الخوف) بقوله: «الجوع يتغذى على الخوف/ خوف الصمت يدوي في الشوارع/ الخوف يهدد:/ إذا أحببت، تصاب بالأيدز/ إذا دخنت، تصاب بالسرطان/ إذا تنفست، تتلوث/ إذا شربت، تحصل على حوادث/ إذا أكلت، ترتفع فيك نسبة الكولسترول/ إذا عبرت عن نفسك، تسرّح، إذا سرت، تُسرق/ إذا فكرت، تقلق/ إذا شككت، تجن/ إذا شعرت، تعاني من الوحدة». إذا.. هنا شرطية، إحباط، تحذير، إيقاف.. يضعها غاليانو أمامنا، فاذا استجبنا لـ (إذا) كنا كمن يقتل قناعاته وآماله وتوجهاته.. بمعنى أن يظل دون فعل ودون إرادة ودون قدرة على فعل شيء.. وبالتالي ستؤدي (إذا) إلى شلّ إرادته.. حتى الموت! إن إدواردو غاليانو/ الذي يترجم الى العربية لأول مرة ـ حسب علمنا ـ وبكثافة لغوية صاغها مترجم بارع مثل: أسامة أسبر، له فضل إكتشاف غاليانو أولاً، ومن ثم تقديمه بهذا الامتياز اللغوي البارع في إيجاده، والمفكر العميق الذي أحاط بأسرار الحياة، وقدم بوحاً إنسانياً ومن أعماق الذاكرة والأحساسيس.. حسب الله يحيى ـ بغداد:

Email