سباستياو سالغادو مصور وثائقي فريد بأسلوبه

«بدايات التكوين» رحلة عبر عوالم الطبيعة البكر

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا يقل دور فن التصوير الفوتوغرافي، منذ نشأته وحتى اليوم عن بقية الفنون، التي أسهمت في تغيير الرأي العام العالمي، إما عبر الكشف عن العديد من الجوانب الإنسانية التي غفلت عنها المجتمعات، وإما من خلال الارتقاء بجماليات الإبداع، ليُخّلِد التاريخ نتاجها في كل مكان وأوان.

وإن كنا نعرف الكثير عن تجارب المبدعين في عالم الأدب والموسيقى والتشكيل، إلا أن معرفتنا في العالم العربي حول ثقافة فن التصوير لا تزال قليلة.

وهكذا، ارتأت «البيان»بالتعاون مع «جائزة حمدان بن محمد بن راشد آل مكتوم الدولية للتصوير الضوئي»، تسليط الضوء في كل شهر على إحدى روائع هذا العالم، والتي تعتبر بمثابة أيقونة في عالم التصوير الفوتوغرافي. والحكاية التي تكمن خلفها، وخلف تجربة المصور الإبداعية، وذلك عبر تقديم قراءة لأحد الكتب المتوافرة في مكتبة الجائزة.

اختيار مكتبة الجائزة لهذا الشهر، كتاب يكشف عن أبعاد لها خصوصية الإبداع في فن التصوير الضوئي، حيث يربط بين: لغة التصوير، التي تخاطب عين وفكر وقلب المشاهد، وخصوصية الصورة، التي تتخذ فيها الطبيعة وما فيها هويتها الخاصة، ومحور الإضاءة، الذي يلعب دوراً أساسياً في إبراز جمالياتها.

الأبعاد الثلاثة

والكتاب الذي يقدم الأبعاد الثلاثة مجتمعة، هو «بدايات التكوين- أرض أزلية»، الذي يعتبر جزءاً من سلسلة كتب بالعنوان نفسه للمصور العالمي سيباستياو سالغادو، والصادرة من دار النشر الألمانية «تاشين» المعنية بتوثيق روائع الفنون في العالم.

ويوثق سالغادو في سلسلته هذه صوراً لطبيعة بكر وقبائل لم تصلها بعد مظاهر المدنية. أما السلسلة فهي نتاج مشروع طويل استمر في العمل عليه سالغادو لثماني سنوات «2004-2011»، مسافراً ومستكشفاً جغرافية وجمال الطبيعة.

ويصف سالغادو مشروعه «بدايات التكوين» هذا: «إنه رسالة حبي لهذا الكوكب». أما حب سالغادو للطبيعة والتصوير فبدأ عام 1973، حين تخلى عن مهنته كونه رجل اقتصاد وتفرغ للتصوير مستكشفاً جمال الطبيعة التي لا تزال كما هي منذ نشأة الحياة. وانطلق في مشروعه، إما سيراً على الأقدام وإما في طائرة صغيرة أو في منطاد أو قارب صغير، ليسجل في رصيده 30 رحلة بين أصقاع العالم، ليتواصل مع المتلقي من أية ثقافة كان، عبر لغة الصورة.

جغرافية الأمكنة

أما ما نتعرف عليه من مضامين في «أرض أزلية»، ضمن خمسة فصول، فهو نتاج اعتماد سالغادو في تصنيفها على جغرافية الأمكنة، ففي أولها نسافر إلى عالم القطب الجنوبي بجباله الثلجية البديعة وبحره وكائناته، كمستعمرات البطريق وأسراب الطيور وهندسة أعشاشها والفقمة والحيتان، ويليه فصل المحميات الطبيعة بخصوصية جغرافيتها، التي تجمع بين غرابة تكوين أرضها وخصوصية طبيعتها من جبال وأشجار وكائنات تعيش فيها وطبيعة وتقاليد حياة القبائل فيها، وخصوصية علاقة الصداقة، التي تربط بين الإنسان والطبيعة من جهة، وبقية الكائنات من جهة أخرى كالزواحف والحيوانات الأخرى.

ويشمل الفصل الثالث مختارات من رحلته إلى أفريقيا التي يقول إنه ارتبط بها منذ زيارته الأولى إلى نيجيريا عام 1973، ليتعرف على عوالم جديدة من الغابات والصحارى الشاسعة وحياة قبائلها وغرائب تقاليدها وفلكلورها، وقطعان الإبل فيها والفيلة والنمر المرقط. ويأخذنا في الفصل الرابع إلى مناطق القطب الشمالي قريباً من ألاسكا، التي تعكس جمالاً وحشياً للطبيعة.

ونحط الرحال في الفصل الرابع في منطقة الأمازون وسهوبها وغاباتها ووديانها، وتماسيحها وقرودها، وغرائب عادات القبائل فيها ومنها إلى منطقة بانتانال الاستوائية في البرازيل، التي يختم بها سالغادو الفصل الخامس، حيث يضم صوراً لحياة قبيلة تعيش فيها منذ 10 آلاف سنة.

العاملون والهجرات

أبرز أعمال سالغادو في رحلته مع التصوير، ثلاثة مشاريع طويلة الأمد وثقها في كتب، التي تحدثنا عن ثالثها، أما أولها فهو «العاملون» عام 1993، التي يتعرف من خلالها المشاهد على أنماط مهن يدوية انقرضت أو تكاد تنقرض بعد تطور الصناعة والتكنولوجيا.

والمشروع الثاني «الهجرات» عام 2000، يوثق فيه معاناة البشر المهجرين سواء نتيجة كوارث الطبيعة أو عوامل تغيير الطقس كالجفاف أو الصقيع وبالتالي المجاعات أو الحرب الناتجة عن أطماع الإنسان.

ويتجلى في مشروعه الثاني ما واجهه سالغادو من مآس إنسانية جعلته يكاد يفقد إيمانه بالإنسانية والخير، ما دفعه إلى استعادة هذا الأمل لنفسه، وللغير من خلال ما تلتقطه عدسته، حيث كان ضمن تصويره ما يعانيه الإنسان الذي جردته الظروف من كل شيء، يحرص على إبراز كرامته وعزة نفسه خاصة نتيجة دمار الحروب الناجمة عن جشع الإنسان وأطماعه.

خصوصية أسلوبه

والحديث عن خصوصية أسلوب سلغادو في التصوير، والذي في أرشيفه اليوم أكثر من نصف مليون صورة، يعيدنا إلى عالم التصوير الوثائقي والصحافي. وفي حين يقوم المصورون الصحافيون بتوثيق اللحظة بآنيتها، التي تعتبر محور الحدث، فإن المصور الوثائقي يوثق لحظات عبر الزمن، بهدف سرده حكايات من التاريخ.

ولزمن طويل، رفض سالغادو استعاضة الفيلم بالتصوير الرقمي، لكن الصعوبات، التي كان يواجهها، وتحديداً تمرير أجهزته على الأشعة في المطارات، دفعه إلى تبني التقنية الجديدة، خاصة أن الأشعة تضعف من حساسية الفيلم. وسرعان ما أدرك سلغادو النتائج المبهرة لتلك التقنية، التي تطورت كثيراً منذ انطلاقتها وحتى مرحلة استخدامه لها.

للطبيعة هوية

لم يكن هذا التغيير الوحيد الذي واجهه الفنان، الذي يقول في إحدى مقابلاته: لم يسبق لي قبل بدئي بمشروع «بدايات التكوين» أن صورت حيوانات أو مشاهد من الطبيعة، ولكن حين بدأت، أدركت أن لمناظر الطبيعة والكائنات الأخرى هويتها وشخصيتها.

كان هذا الأمر بمثابة اكتشاف ضخم بالنسبة لي. وحين سئل ذات مرة، كيف يمكنه الفصل بين مشاعره والتصوير الوثائقي، قال: «الفصل بينهما كارثة بالنسبة للمصور الوثائقي. عليك أن تعيش الحالة لتكون واقع حياتك، ومشاركة الآخرين ما يمرون به قدر المستطاع، فأنت لست ذاهباً لتستغل أو تأخذ شيئاً من أي كان. أنت لا تأخذ صورة بل تصنعها، وتصنعها بشكل جيد، وتستخدمها للتواصل والتفاعل والمساعدة في حل مشكلة من صورتهم أو التخفيف من محنتهم.

هؤلاء الناس مع الوقت سيأتون إلى كاميرتك كأنهم يتوجهون إلى الميكروفون، ليتحدثوا عبر عدساتك». ويؤكد سالغادو أنه على المصور الوثائقي أينما كانت مهمته، أن يطلب إذناً مسبقاً ممن يرغب بتصويرهم، ويفضل عن طريق طرف آخر، ومن ثم يشرح الهدف من تصويره لهم وكم أن مشاركتهم مهمة في إيصال صوتهم أو محاولة تغيير وضعهم.

خصوصية الإضاءة

عاش سالغادو ضمن مزرعة نائية تعنى بتربية قطعان الماشية في ولاية ميناس غيراس، ومن أجواء طبيعة المكان والرياح المحملة بالغبار والدخان التقط سالغادو تأثيره الضوئي الذي يجمع فيه «بين الجلاء والقتامة» النور والعتمة والذي بات أسلوبه المعتمد.

قمة الجرس.. صعوبات و نجاح

يُشّبه سالغادو مهمة المصور الوثائقي في رحلة له، بهيكل الجرس، ليبدأ من الأرضية، حيث يستخدم عدسات بعيدة المدى، خلال تعارفه مع أفراد المنطقة، وشرح الهدف من زيارته. وبالحصول على موافقتهم، يبدأ صعود التلة وصولاً إلى قمة الجرس. وفي هذه المرحلة يكون التصوير صعباً ومربكاً لطبيعة المنحدرات.

وبعد مضي بضعة أيام أو أسبوع، يعتاد عليك وعلى كاميرتك الناس، وعليه يصبح صعودك أكثر ثباتاً وقصصك أكثر عمقاً وعدساتك أقرب مسافة، والصور أفضل. وحينما تقترب من منحنى القمة، تقل الجاذبية، التي تعيق عملك وتبدأ بصناعة أفضل الصور.

سفير النوايا الحسنة

سبق أن عمل سيباستياو سالغادو، المولود عام 1944، مع كبرى وكالات التصوير، لتكون البداية مع وكالة «سيغما» للتصوير، ومن ثم وكالة «غاما»، التي مقرها في باريس، لينضم عام 1979 إلى جمعية المصورين العالمية «ماغنوم فوتوز»، ثم تركها عام 1994، وليؤسس مع زوجته ليليا وانيك سالغادو وكالته الخاصة «أمازوناس إيميجز» في باريس لتمثيل أعماله.

وأصبح منذ عام 2001 وحتى اليوم سفيراً للنوايا الحسنة في اليونيسكو.

 

بدايات التكوين.. أرض أزلية

«Genesis – Earth Eternal»

تأليف: ليليا وانيك سالغادو

الحجم: الكبير

الناشر: تاشين - 2013

الصفحات: 520 صفحة

 

أقوال في سالغادو

ــ يقول الروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز «1927-2014»، الفائز بجائزة نوبل للآداب عام 1982، عن أعمال سالغادو: «مهارته في التصوير قريبة من أجواء لوحات الرسام كارافاجيو». ويقصد هنا مايكل انجلو ميريسي دي كارافجيو «1571-1621» الذي تركت أعماله أثراً واضحاً في فن الباروك.

ــ أما الكاتب المسرحي الأميركي آرثر ميلر «1915-2005» فيصفه بقوله: «يكمن تميز سالغادو في إبرازه الألم عبر الجمال، ضمن قساوة عالم العمال».

ــ ووصفته صحيفة نيويورك تايمز: «فن تصوير سالغادو مستقل بحد ذاته، ومواضيعه تفرض هيبتها على المشاهد».

Email