الراوية الإماراتية.. كنز ذكريات يوثق أحوال المجتمع وقصصه التاريخية

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

تتنوّع مصادر الجمع الشّفهي عند الباحثين، وتأتي رواية الرجال على رأس أولويات المهتمّين بهذا الجمع على اعتبار أنّهم الأكثر بروزاً على الساحة، والأكثر يُسراً في التواصل معهم، والأكثر حضوراً في المجتمع. كما أنّ كثيراً من النساء الراويات يتحرّجن من مقابلة الباحثين من الرجال.

وسبق وأن أشارت الباحثة فاطمة أحمد المغنّي، إلى دور المرأة في السرد التراثي في بحثها المعنون: «المرأة والتّراث: تجربة شخصيّة» ضمن كتابها: «التّراث الشّعبيّ: الجمع الميداني، إشكاليّاته وآفاقه»- تحرير: ناصر علي الحميري وموسى سالم الهواري- (هيئة أبوظبي للثّقافة والتّراث) أبوظبي 2008 «ص. 38-43». كذلك الباحث عبد الله عبد الرّحمن في مبحثه:

«إعجاب وتعجّب واستفهام؟! علامات على طريقنا نحو مغاصات تراثنا الغنيّة»، الذي قدمه في «ندوة التّراث الشّعبي في دولة الإمارات العربيّة المتّحدة» في (مركز بحوث التاريخ والتّراث الشّعبي بجامعة الإمارات ـ المجمع الثقافي بأبوظبي) - العين- مايو 1992 «ص. 72- 73».

كما أُجريت بعض المقابلات مع عدد من الراويات، من أمثال: الوالدة عايشة الشّحّي في موضوع: «سوالف: الزّواج وتقاليده»- مجلّة تراث، س. ع. 5 (ذو الحجّة 1419 هــ /‏‏‏‏ إبريل 1999) «ص. 18-20». وما نشره الباحث حمدي نصر تحت عنوان: «دانة في زمن اللؤلؤ الصّناعي: شمسة..

غاصتْ لصيد اللؤلؤ في شبابها وتصيد السّمك في سنّ السّبعين»- مجلّة تراث، س. 6، ع. 67 (ربيع الآخر 1425 هــ /‏‏‏‏ يونيو 2004 م) «ص. 12-17». وفي أيّام الشارقة التراثية، ويوم الراوي برزت مجموعة من الجهود والمحاولات في الخصوص.

أصول صحيحة

لا شك أن إجراء المقابلات بحدّ ذاتها، يتطلّب تدريب باحثات مواطنات أو جامعات لِتمكينهنّ مِن إجراء المقابلات مع الراويات على أصولها الصحيحة. ومن المؤكد أن الباحثات المواطنات يجبرن ويقومن الخلل فيما يتعلّق بتحرّج الأمّهات والجدّات من محاورة الباحثين الرجال لهنّ. خاصّة وأنّ رواية المرأة بغرض التّأريخ شيء خاصّ جدّاً ومتميز، إذ تقدّم مرويّاتها بُعداً كبيراً من حيث العمق الاجتماعي.

ونظراً لهذه الخصوصيّة يمكن أن نطلق عليه: «التّأريخ الشّفهي للمرأة» كتمييزٍ له عن بقيّة المرويّات المتلقّاة من الرّجال أو حتى النّساء، خارج الإطار الاجتماعي، بمعنى أنّ مَن يروي هذه الأخبار نسوة ليس لهنّ حضور سياسي في المجتمع..

إن الجدات والأمّهات يشكّلن مصادر خصبة لموادّ التّراث الشّعبي المحلي، وتختزن ذكرياتهنّ كثيراً من مجالات وسياقات التفاعل الاجتماعي. وكانت المرأة ترسم الثقافة الرّئيسة للأطفال ..

وكانت من هؤلاء الجدّات والأمّهات شاعرات وفنّانات شعبيّات، وصاحبات اهتمامات اجتماعية وثقافية متنوّعة. وكنّ يمارسن عدداً من الأعمال المنزلية والصّناعات التقليدية المتوارثة. كما يقمن بأعمال ميدانية كالزراعة والرعي والبيع والشّراء والطّبّ الشّعبي، وتعليم القرآن الكريم.

تشخيص شامل

ومن خلال تجربة شخصيّة مع عدد من الراويات، وبالتعاون مع بعض طالباتي في قسم التاريخ والآثار بجامعة الإمارات العربية المتحدة، وجدنا أنّ الأمّهات والجدّات هنّ خير مَن يقدّم لنا تشخيصاً ووصفاً للأوضاع الاجتماعيّة والمعيشيّة والأعمال اليوميّة التي مارستْها الراويات بأنفسهنّ.

حيث اعتبرن ذلك من فروض الحياة التي لا تتمّ إلا بها، نظراً للحاجة الماسّة للأُسر آنذاك، لمثل هذه الخدمات التي تقدّمها المرأة في المجتمع. كما أنّهنّ يتحدّثن عن ظروف اجتماعيّة معيّنة عايشنها وعاصرنها. كذلك يحكين ظروف الحياة الصّعبة الواقعة تحت وطأة الجهل ومحدوديّة التّعليم وانتشار الأُمّيّة، في القديم، إلا أنّهنّ كُنّ يقدّرنَ الحياة ويخبرنَ كيفيّة التّعامل معها.

وتبين لنا بفضل هذه المقابلات، مدى استعداد الرّاوية المواطنة لتقديم معلومات اجتماعيّة مهمّة، عاصرتْها أو ساهمتْ فيها أو سمعتْ عنها. وفي الوقت نفسه، كانت المقابلات ميداناً عمليّاً لطالباتنا في إجرائها، والتّواصل مع الرّاويات واستيعاب موضوع الحوار.

الذاكرة بطلاً

وفي الحوار، تعتمد الراوية على الذاكرة في تحديد تأريخ الميلاد، وعدم تيقّنها من التّأريخ المدوّن في جوازات السّفر وغيرها من الوثائق الرّسميّة، نظراً لأنّهنّ مولودات في البيوت، وفي فترة لم تكن الحالة مهيّأة لتسجيل شهادات الميلاد، بسبب ما كان يمرّ به المجتمع المحلّيّ من جهل وتأخّر في التّعليم.

وأقصى ما تمكّنتْ منه الرّاويات، ربط تواريخ الميلاد بعهود الحكّام أو ببعض الأحداث التّاريخيّة، بحيث تذكر إحداهن، مثلاً، أنها وُلدت قبل ما يحكم الشّيخ فلان، أو أنّها كانت «في المطوّع»، أي في سن الدراسة عند المطوع، حين حكم الشّيخ فلان..

وكان السّفر عن طريق البحر الوسيلة الأكثر شيوعاً في ستينيّات القرن الماضي، وتلك هي الوسيلة التي سافرتْ عبرها الرّاويات.. وكان الحجّ الوجهة والرغبة والطموح الأهم لدى النساء/‏‏ الرّاويات، وفي سبيله تحمّلن المشاق. وكان ميناء دبي المنطلق، وميناء الخُبَر في السّعوديّة ميناء الرسو. وغالباً ما تستغرق الرحلة من أربعة إلى خمسة أيّام. ومن الخُبر كان يُنقل الحجّاج بالحافلات إلى مكّة المكرمة.

«ورقة أم سفرة وحدة»

واللافت هنا أن الرّاويات كن يقدّرن قيمة وثيقة السّفر، وكانت في البداية جواز السفر، حيث كانت كلّ إمارة تصدر جوازها الخاصّ لمواطنيها، وكان المسافرون يستخرجون، قبل إصدار جواز السفر، ورقة سفر تُعرَف بــ«ورقة أم سفرة وحدة». ولم تكن الجوازات القديمة تحمل صورة للمرأة. ولهذا كانت الواحدة تسافر بجواز الأخرى، ولم تكن الأمور في تلك الفترة مقيّدة ودقيقة التّفتيش.

وفي عقدَي الخمسينيات والستينيات من القرن الـ20، كان الأزواج في الإمارات، بنسبتهم الغالبة، يعملون في دول الخليج العربيّة. ولهذا كانت الزّوجة تتولّى المسؤوليّة في البيت، وكانت تتلقّى من الزّوج روبيّات معدودات» 100 -150 روبية» بين فترة وأخرى.

وسافر بعض الأزواج للتّجارة، إلى الهند وساحل إفريقيا الشّرقيّ.. وكان اللحاق بالزّوج في مكان عمله في الكويت، أيضاً، من ضرورات الحياة والإقامة. كما أنّ بعض النّساء ذهبن إلى العمل برفقة أزواجهنّ وأقربائهنّ.

ومَن زرن منهنّ الكويت أو عشن فيها، فإنّهنّ كنّ على علم ومعرفة بواقع المجتمع الكويتي من حيث الحياة والمعيشة والتواصل مع النّاس وقضاء حياة هانئة في الكويت، مع تعارف مع أهلها الطّيّبين الذين ارتبط بهم أهل الإمارات وتزاوروا معهم. كما كانت لهنّ معرفة بحكّام دولة الكويت في تلك الآونة، مثل: الشّيخ عبد الله السّالم الصّباح- رحمه الله-.

وأمّا في التّعليم، فأقصى ما بلغته النساء، في تلك الآونة، هو الدراسة عند المطوّع أو المطوّعات، أو عند الكتاتيب. والفتيات كن يركزن، قبل كل شيء، على التّعلّم من الوالدة.

مشاهدات ودهشة

كذلك، فإن النساء اللواتي زرن العراق، من بين هؤلاء، كن يجدن في البصرة متنزّها وراحة، بما فيها من أشجار النّخيل الباسقة التي تمتدّ على مدّ البصر، وكأنها غابة خضراء يانعة.. إضافة إلى مياه الشّطّ الرائقة. وهن يقدّمن في حكاياتهن، أيضاً، صورة جيدة عن الوضع الصحي في الكويت، حيث المستشفيات والعناية والاهتمام الطبي..

خاصة وأن هذه الأمور كانت شبه مفقودة في الإمارات قبل قيام الاتحاد، بجانب ما كانت عليه الأحوال من شظف في العيش في مدن الإمارات..لدرجة أن النسوة الراويات يحكين أنهن، وللمرة الأولى، في تلك الأسفار، يرين الحليب المجفّف وعلب بسكويت الأطفال..

وكذا: الكهرباء والمياه في المواسير والحنفيات والشّوارع المرصوفة والمسفلتة والإنارة في الشّوارع والبنايات العالية، والأنشطة الثّقافيّة والفنّيّة، من مسرحيّات وسينما وتلفزيون وإذاعة.. إلى غير ذلك من المفارقات التي تُذكر.

Ⅶمقابلات الراويات تتطلّب توافر متخصصات أو جامعيات مواطنات مدربات يتقنّ أصولها

Ⅶجداتنا وأمهاتنا مصادر خصبة للتراث الشعبي المحلي وذكرياتهن تختزن سياقات تفاعل ثقافي

Ⅶميناء دبي كان منطلق أسفار المواطنات إلى السعودية طوال 5 أيام.. ورسوهن كان في ميناء الخُبَر

Ⅶرواية المرأة للتاريخ تحوز خصوصية انطوائها على البعد الاجتماعي.. إنها «وثيقة شفهية نسائية»

Ⅶالحج مثّل للمرأة الإماراتية أول دوافع خوض مغامرة السفر.. وفي سبيله لم تبالِ بأية مشاق

أُسر منتجة

أتقنت النّسوة في الإمارات، قديماً، مجموعة حرف، كالتّلّي وخياطة الملابس، وبالذّات «الكنادير» للرّجال والنّساء والتي كن يبعنها ب5 روبيّات. إضافة إلى صناعة الدّخون..وتجصيص التّنّور والكوار والدجّة..وتجهيز العروس ليلة الدّخلة. وهذا ما يمكن تسميته : «الأُسر المنتجة». كما كانت النساء تحرص على توصية العروس التّفاهم مع زوجها والتّراحم معه، وكتمان أسرار بيت الزّوجيّة.

الراوية الإماراتية.. كنز ذكريات يوثق أحوال المجتمع وقصصه التاريخية

مقيظ وخلال

جماليات كثيرة، تنطوي عليها ذكريات رحلة المقيظ لدى أمهاتنا وجداتنا الراويات. وهي كانت تمثل الانتقال من البلدة إلى أماكن التصييف، حيث كان الأهالي ينتقلون للسكنى قرب مزارع النّخيل، ومع هذه الأجواء والطقوس، طالما عاشت النساء أوقاتاً مفعمة بالبساطة والغنى.. وطالما عاصرن وعايشن ثمار النّخلة من بدايتها، وكنّ يرين الخلال أحلى من العسل، في حين أنه لا أحد يعرف، حالياً، هذه الفترة: فترة الخلال.

فرجان قديمة

ذكرت راويات، بعض الفرجان القديمة في مدن الإمارات. ففي مدينة رأس الخيمة، مثلاً: فريج الميان، فريج هَل المحّارة، البطح عند مسجد السّوق، العرصة القريبة منه التي فيها سوق الحريم اللواتي يبعن الإقط والحنّاء والعطورات. إضافة إلى العمارة، وهي مبنى كبير الحجم في السّوق، يضمّ أخشاب الجندل وأغراض الصّيد. وإلى غير ذلك من لوازم الأعمال والبيوت.

 

Email