جـــذور

التراث وتشكيل الهويّة الوطنيّة لبنات راسخة ومقومات حضارية (01)

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

تمتلك دولة الإمارات العربية المتحدة مقومات عديدة للوحدة تقوم على أسس من الوحدة الجغرافية، التي تشير إلى رقعة واحدة وكتلة أرضية متصلة، ما يشي بأن فرصة كبيرة قد أُتيحت لسكانها للتواصل من قبل الطبيعة التضاريسية الملائمة في ما بينهم عبر العصور.

وتتوافر للدولة درجة رائعة من وحدة السلالة وأصالة العروبة والوحدة الروحية، إضافة إلى الوحدة الجغرافية ووحدة التجربة التاريخية، في إطار من التجانس في الأسس الاجتماعية، وعلى رأسها العادات والتقاليد وتشابه النظرة إلى القيم الخلقية، وهي سمة عظيمة تميز أفراد المجتمع، وتمنحهم ذاتيتهم ومعرفة أنفسهم.

وتعتبر الهوية الوطنية أحد المكونات الرئيسة لمجتمع الإمارات، وتشمل اللغة والدين والعروبة والآثار والمأثورات والأمثال والشعر والأهازيج والحكايات والفلكلور والعادات والتقاليد والموروث الاجتماعي والتاريخي والعمراني والحِرفي. وهي في حد ذاتها حافظة لوحدة الأمة ونفسيتها ومشاعرها وذاكرتها.

وتمثل بعناصرها منجزاً حضاريا عظيماً للأمة. وتشمل التاريخ الثقافي للمجتمع، الذي تناقلته الأجيال جيلاً بعد جيل، حتى أضحى أعظم مكونات المجتمع المحلي.

ارتباط وتلازم

لشدة الارتباط بين الهوية والثقافة في دولة الإمارات، أضحى الاثنان متلازميْن، ويعود ذلك إلى العلاقة التلازمية بين مكونات المصطلحيْن وعناصر نشوئهما. وهي في الوقت نفسه متجددة في بعض مظاهرها، متغيرة حسب الظروف والأحوال، وهي ذات تجديد فاعل قابل لاستيعاب المفاهيم الجديدة، ومحافظ على موروث الأجيال السابقة، متألقة، حاضرة.

وعلى اعتبار أن التراث عنصر مهم من عناصر الهوية الوطنية فإنه في الوقت نفسه، امتداد السلف في الخلف، واستمرار مآثر الأجداد في الآباء ومآثر الآباء في الأبناء والأحفاد. وللتراث الشعبي دور في الحفاظ على الثقافة المحلية، إذ يؤكد صلتها بالماضي العميق، وهو في الوقت نفسه يمثل الماضي المحاور للحاضر حول المستقبل.

وتعود جذور عاداتنا وتقاليدنا وقيمنا ومآثرنا إلى ماضي تراثنا، وهي امتداد طبيعي لتراث الآباء والأجداد، وهو شامل ومتداخل العناصر، إذ تنضوي تحته ميادين السياسة والحكم والعقيدة والأدب والفن والظواهر والاجتماعية والنفسية والخلفيات التاريخية، وعليه فهو يشكل هويتنا الحضارية، ويرمز للجذور والأصالة.

ومع عراقة هويتنا إلا أنها لا تتجلى إلا بالتوفيق بين القديم والحديث، وبين الأصالة والمعاصرة بوعي وصدق وشفافية، وتحويل التراث إلى قوة فاعلة ومؤثرة في الحاضر والمستقبل. ويجد ابن الإمارات أن هويته وتراثه يحيطان به من كل جانب، فهما في اسمه وأسماء آبائه، واسم قبيلته، وفي ملابسه وزيه، وفي بيوته ومنازله ومحل استيطانه، وفي رياضاته، وطُرز عمران بلدته القديمة..وغيرها الكثير.

كما يجب الاعتزاز بالرموز الوطنية التي ترمز بوضوح ومباشرة إلى الوطن، وهي تضرب بتاريخها في أعماق الزمن، فتعقد علاقة وثيقة بين هؤلاء الرموز وبين المنتمين لهوية المجتمع مهما بعدت أعصارهم وأزمانهم، إذ نرى في روادنا الأوائل رمزية عظيمة تفتخر بها الأجيال وتلتف حولها وترى فيها نماذج رائدة يجب أن يحتذى بها.

ولا شك في أنه علينا النظر والتنبه إلى حقيقة أن المجتمع إذا ترك أصالته أفلتت منه عروبته وثقافته، وإذا ترك المعاصرة أفلت منه عصره.

وحدة جغرافية وتجانس اجتماعي

وتتمثل المواطنة في الحيز الجغرافي المعروف باسم دولة الإمارات العربية المتحدة، والذي تعيش عليه مجموعة معينة مِن المواطنين يتفاعلون مع بعضهم كونهم أفراداً أو مجموعات ومع الأرض التي يقيمون عليها وينتمون إليها.

وتكون لهم فيها مشاركات إيجابية وحقوق مشتركة، وبمجرد أن يتسموا بها فإنهم يمثلون بالتالي وحدة اجتماعية واحدة، وإن تباينت الألوان أو الأنساب، وهم في الوقت نفسه متساوون بالحقوق أمام القانون، ولهم حرية التعبير في الرأي والرؤية، ضمن إطار الولاء الواحد لهذا البلد.

وعلى الرغم مِن تعدد مشارب الثقافة أحياناً في المجتمع، إلا أنهم ينتمون بكليتهم له، والمواطنة بالنسبة لهم انتماء وعضوية وشعور وتعبير عن حركة الإنسان اليومية، وهي متسقة ضمن البناء الاجتماعي السائد في المجتمع، وهي نتاج لحركة المجتمع، بما يضم مِن مواطنين، وترتبط المواطنة ارتباطاً وثيقاً بقيم المواطنين ومبادئهم وعواطفهم.

وبمجرد انتماء المواطن إلى مجتمع الإمارات بالمواطنة، فهو إذاً يعيش على أرض الدولة مع غيره من أبنائها متساوين، ولهم حقوق وعليهم واجبات ترتكز على قيم أربع هي: المساواة، الحرية، المشاركة، المسؤولية الاجتماعية.

وتتمثل هذه الحقوق في الحياة والمساواة والجنسية والتعليم والرعاية الصحية والحرية العقدية والانتخاب والمعاملة الإنسانية الكريمة، وتصبح المواطنة صفة قانونية ملازمة للمواطن.

وتوجد علاقة تكاملية بين المواطنة والهوية، فالأولى تشير إلى انتساب إلى موضع جغرافي بعينه، والثانية تمثل الانتساب الثقافي والمعتقد والقيم. وهما معياران متكاملان مندمجان، فالهوية لازمة للمواطنة، لأن المواطنين لا بد لهم مِن نظام سياسي وعلائق اقتصادية واجتماعية وقوانين مرتكزة على قيم ومبادئ ومعتقدات ومهما تعاقبت النظم السياسية على البلد الواحد، إلا أن مواطنيه يظلون على هويتهم وانتمائهم الثقافي والديني، ويعيشون على أرضهم التي اكتسبوا مواطنتها.

توازن ومنظومة متناغمة

ومِن خلال الواقع الجغرافي والتضاريسي والبيئي لدولة الإمارات العربية المتحدة، يتضح أن لهذا الموقع الجغرافي أثره على النمو الحضاري ونشوء المستوطنات البشرية، إذ إن الإمارات تقع ضمن شبه الجزيرة الواقعة في أقصى الجنوب الشرقي لشبه الجزيرة العربية، وتطل بساحلين على الخليج العربي، وبحر عمان. وهي بمساحتها هذه تمثل رقعة مندمجة تخلو من الزوائد والأطراف الناتئة، وتكون بالتالي إقليماً متسقاً في وحدة تضاريسية متميزة.

وقد تعاقبت على هذه المنطقة بصورة عامة، حضارات على مر آلاف السنين، ما منحها مكانة متميزة وسط حضارات العالم القديم.

وقد كان لهذا التفرد في الموقع نتيجة هامة في سلوك الأهالي طريق البحر ومهارتهم في ركوبة والاستفادة منه، حيث أصبحت بالتالي قاعدة مهمة، وحلقة وصل رئيسة بين عالَميْن: عالَم الشرق ممثلاً في الهند والصين وجنوب شرق آسيا من جهة، وعالَم شرق أفريقيا ومصر والبحر المتوسط وغرب أوروبا من جهة أخرى.

وبتعدد وتنوع البيئات الحضارية يصبغ سكان الدولة بخصائص مكانية رائدة. وجعل لها هذا التنوع شخصية مستقلة فالبيئة البحرية وكثرة الخلجان الطويلة العميقة جعلت الأهالي يتجهون نحو الخارج، ويحترفون مهنة الصيد والعديد من الحِرف المكملة لها. وفي الداخل جبال على سفوحها سكنها واستوطنها الإنسان منذ أقدم العصور واستغل هذه السفوح في الزراعة، كذلك استغل الأودية وأقام في مناطق الواحات في صحارى البلاد.

وهناك إلى جانب ذلك سهول ساحلية غنية وفيرة المياه كثيرة النشاط، عظيمة الجزر. ووُجد بالتالي نوع من التوازن بين البحر والبر شكل حلقة من حلقات التفاعل المتواصل، ولذا ارتبط الماء باليابسة في منظومة متناغمة شكلت في مجملها كل هذا التراث التاريخي الضخم، ووُجد نوع مِن التوازن الإقليمي بين البر والبحر.

تنوع وثراء

كما أن للتغيرات الطبيعية أثرها على السواحل ونشوء المدن الساحلية، وقد حفظ لها الموقع الجغرافي شخصيتها المستقلة، وأصبح اتصالها بالبحر من سماتها الأساس كما تميزت سواحلها بكثرة الخلجان العميقة، التي تعد من المقومات الرئيسة لقيام ونشأة المرافئ، الأمر الذي ترتب عليه قيام العديد من المدن الساحلية المهمة.

وقد تطورت هذه السواحل تطوراً إيجابياً خلال العصور التاريخية القديمة ونتج عن هذا التطور تأثر السواحل بعوامل التعرية والتجوية المختلفة.

 وتتميز السهول الساحلية ببيئات جغرافية متفردة جعلت منها مناطق جذب للاستيطان البشري على مر العصور. وأسهمت طبيعة جبال الدولة وسهولها وسواحلها في تنويع البيئات الحضارية والحضرية، وتنوع المعالم التضاريسية، إلا أنه يمكن تقسيمها بصفة عامة إلى ثلاثة نطاقات تضاريسية: نطاق شمالي، وآخر في الوسط، وثالث في الجنوب، ورابع في الغرب.

وتشغل الجبال ما يزيد على 4.5% من مساحة الإمارات، بينما تغطي المناطق الرملية والصحراوية والسهلية بقية المساحة، إضافة إلى أن للمناخ وسقوط الأمطار أثراً في نشوء المستوطنات البشرية الداخلية، إذ مرت المنطقة بالعديد من التغيرات المناخية القديمة أثرت بدورها على توزيع مراكز العمران البشري بها، حيث تعرضت أراضي الدولة لفترات مطيرة، تزامنت مع العصر الجليدي في أوروبا.

وتختلف الظروف المناخية مِن منطقة لأخرى على الرغم مِن أنها تقع ضمن المناطق المدارية إلا أنها تتعرض لتغيرات مناخية موسمية بعض الأحيان.

وبصورة عامة، فإن توزيع المستوطنات البشرية يعد انعكاساً مباشراً للظروف المناخية السائدة، فنجدها تنتشر في المناطق الساحلية الشمالية والجنوبية والغربية والشرقية، في حين أن المناطق الداخلية تنتشر بها المستوطنات البشرية في مناطق وجود المياه وبالقرب مِن الأودية والواحات.

انفتاح هائل

تحققت للدولة، بعد اكتشاف النفط وبمرور الوقت، فورات مالية طائلة، وارتفاع كبير في الناتج المحلي الإجمالي. وحدث انفتاح هائل على مختلف الثقافات، واحتوى المجتمع على ثقافات شتى، ما أوجد ضرورة الارتكاز على العنصر البشري، الذي قدم لنا تراثاً عبر عصور تجاوزت أربعة عشر قرناً، وهو تراث عربي من حيث الممارسة والتطبيق والرؤى، وإسلامي من حيث الراية والاعتقاد والانتماء.

ونتيجة لذلك، ازدحمت في مجتمع الإمارات أطروحات الماضي وتطلعات المستقبل، وامتزج فيه القديم والحديث، والتقليدي والمعاصر، والوطني والوافد، وقد أدى كل ذلك إلى تمايز بين جيلي الآباء والأجداد، وبين جيل الأبناء الشباب.

توفيق

يجب علينا التوفيق بين ماض عريق، وبين حاضر مزدهر، وبين تراث عريق، وبين واقع معاصر، كما وجب علينا أن نركز على تراثنا، وأن ننفتح على تراث الآخرين الذي فرض وجوداً كونياً ذا فكر جديد له رؤاه الخاصة وانعكاساته الكبيرة. وأصبح من الضروري التوفيق بين القديم والحديث، وبين التقليدي والمعاصر، وبين الوطني والوافد، وبين العربي والغربي.

مستودع قيم الأمة

تعمقت جذور الهوية والمواطنة في أرض الإمارات، وأصبحت لها مظاهر واضحة يمكن تلمسها في الجغرافيا والتاريخ والحضارة والتراث.

وأضحى التراث نمطاً سلوكياً يعبر عن الجوانب النفسية والاجتماعية للفرد والجماعة، وظاهرة وحادثة ذات دلالات وليس كأمثال أو ألغاز فقط. وشمل التراث: الأدب الشِفهي، التراث المادي، العادات الشعبية، فنون الأداء الشعبي. والتراث هو مستودع قيم الأمة وحارسها، وهو خط الدفاع الأول ضد الاستلاب والغزو الحضاري، الذي يهدد الشعوب الضعيفة.

 

ــ المجتمع إذا ترك أصالته أفلتت منه عروبته وثقافته وإذا ترك المعاصرة أفلت منه عصره

ــ الاعتزاز بالرّموز الوطنيّة ركيزة جعل أجيالنا تفاخر بروّادنا الأوائل وترى فيهم نماذج تحتذى

ــ مقومات عديدة للوحدة في مجتمعنا أبرزها أصالة العروبة والوحدة الجغرافية

ــ الموقع الجغرافي للإمارات أثر إيجابياً على النمو الحضاري ونشوء المستوطنات البشرية

صفحة أسبوعية متخصصة بالتراث والبحث في مفردات المكان وملامحه التاريخية والمعاصرة

Email