السيرة بالقصيدة ذاكرة الأمثال في التراث الإماراتي

شعراء شعبيون نظموا يومياتهم بالحكمة والغزل

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا تختلف القصيدة الشعبية عن غيرها من أجناس الفعل الإبداعي، فهي ذاتية في المقام الأول، وقائمة على التجربة الشخصية والمعايشة اليومية للشاعر قبل أن تكون تخيلاً، واشتغالاً على المحمول التراثي، أو الحكائي، أو الديني، أو غيرها من الاشتغالات التي ينطلق منها الشعراء لبناء نصوصهم، لذلك ليس غريباً أن يجد المعاين للنتاج الشعري الشعبي في المشهد الإماراتي، حضوراً واضحاً لسير الشعراء، وتكريساً لمجمل ما خبرته تجاربهم في الحب، والحكمة، والتاريخ، وغيرها من الأغراض الشعرية الماثلة في قوام النص الشعري، إذ لا يمكن للشاعر أن ينفصل عن ذاته، وعن ذاكرته في الكتابة، أو النظم، فهي المرجعيات الأصيلة لتجربته الإبداعية.

يفرض هذا الشرط الإبداعي الكثير من السمات الأسلوبية في كتابة القصيدة الشعبية التي لم تدرس حتى اليوم بما يكفي لتشكيل أنماط نقدية تقوّم مسارها، وترصد تحولها مثلما جرى للقصيدة الفصيحة، فالباحث في مجمل النتاج الشعري الشعبي المحلي يجد الكثير من الأساليب التي استخدمها الشعراء استجابة لشرط التجربة الشخصية والسيرة اليومية المعايشة لواقعهم في كل مرحلة من مراحل تجاربهم الشعرية.

نماذج وذاكرة

تنكشف هذه الأنماط بالعودة إلى نماذج من القصيدة الشعبية الإماراتية، فمرة يلجأ الشاعر إلى الأسلوب القصصي لكتابة قصيدته، ورواية ما جرى من مواقف معه، ومرة يوظف أسلوب الحوار القائم بين طرفين لتصبح القصيدة حدثاً يناقش فيه مستمعيه، ويستمزج ردود أفعالهم، إضافة إلى أغلب الشعراء الذين ظلت تجاربهم في الحب، هي المرجع الأصيل لكتابة قصائد الغزل، فصاغوا نماذج لمعشوقاتهم، شكلت ذاكرة المجتمع الإماراتي، وتصوراته عن المرأة الجميلة. واحدة من هذه الأساليب ما يقدمه الشاعر أحمد بن علي الكندي في القصيدة التي يصف فيها حادث سيارة ويحدث صديقه خلفان بن راشد الهاملي، إذ يكتب:

إن سلت عن علمي وعن حادثٍ جرى

                                   باخبرك حتى أنك تصير خبير

جينا من الكَمْب الجنوبي من ليوا

                                 في جيب للشركه بوحيب قصير

مرقاع عندي كان في يوم أقشر

                                وسيارة أخرى معاي تسير

خطفنا على رجل يبا السيف قاصد

                               وعنده صبيٍ من العِيال صغير

قال انقلوني ياهل الجود والكرم

                                تجزون من رب العباد بخير

يحول الشاعر الكندي الشعر الشعبي في قصيدته إلى مساحة مفتوحة لإعادة صياغة اليومي وتقديمه في قالب شعري، يتشابه في اغراضه مع اليوميات السردية القصصية التي يوثق فيها الكاتب يومياته، إلا أنه لا يختار القصيدة لتكون محلاً ليومياته وأبرز الأحداث التي مرت عليه، وإنما يوظف تجربته لتكون منطلقاً لسلسلة من الشواغل التي يشترك فيها البعد االجمالي، والحكمة، والرواية، فيصبح الحدث مفتاحاً لتداعي هواجس الشاعر، وبناء نصه.

نص شعري جمالي

يرتبط ذلك في العلاقة القائمة بين الشاعر ومعايشته اليومية، فكل ما يمر على الشاعر قابل للتحول إلى نص شعري جمالي، بغض النظر على توصيفه الشعبي، أو الفصيح، إذ الإبداع اعادة انتاج كل ما هو مرئي وملموس، ومحسوس بصيغة لغوية منظومة في قالب الوزن والقافية.

يتجلى هذا الواقع أكثر في القصيدة التي كتبها الشاعر محمد بن علي الكوس، الذي فتح فضاء تجربته الذاتية، وسيرته الشخصية، لتقديم خلاصات من الحكمة، ينكشف فيها صوت الشخصية البدوية الأصيلة الملتزمة بقيم القبلية، والممتثلة لإيقاع الصحراء بكل ما تفرضه من اشتراطات على الشخصية الإماراتية، إذ يقول:

سميت بالرحمن يوم أبديها

                          أبيات نظم امن الضمير أسديها

من زود ما بي عايف طيب الكرى

                          ساهر واْعَذل النفس ثم وانهيها

أبيات نظم في ضميري خاطفه

                         مرت شرى شرتا الهبوب العاصفه

جالت بقلبي واحدرت بالعاصفه

                          هاجت علي وبالغرام ابنيها

مرت على قلبي مرور السايبه

                         لي نسنست يوم الكواكب غايبه

وانتعش هواها مهجتي لي ذايبه

                         من عقب ما نار الغضا تصليها

واسهر عياني في الدجى طيف سرى

                         وذكر افوادي عن حوادث ماجرى

قمت استعيذ ابقل أعوذ ولم ترى

                         وارتل الآيات يوم اتليها

ومن عقب ذا صاحبي قم وانتبه

                        وفكر ابدنيا يا فتى لك متعبه

انظر وطالع في مصير العاجبه

                        غرك صفاها والكدر تاليها

استجلاء الحكمة

يعيد الشاعر في تلك القصيدة التي تكتمل بجملة من النصوص البليغة القائمة على استجلاء الحكمة، تاريخ ما مر عليه من تجارب كأساس لتشكيل فضاء القصيدة، فتتحول سلسلة أخطائه، ونجاحاته، إلى خلاصات في التجربة الإنسانية، منسوجة في أبيات من الشعر الشعبي، تصلح لتكون أمثالاً تستشهد بها الأجيال، الأمر الذي يجعل الكثير من الأبيات الشعرية مشرعة لتكون ذاكرة الأمثال والحكم في التراث الشعبي الإماراتي.

فتح الشعراء الإماراتيون في القصيدة الشعبية باباً واسعاً على موروث الحكمة والمثل في نصوصهم، فصار للقصيدة الشعبية علاقة تفاعلية مع الأمثال بحيث تحضر في بناء النص، وفي الوقت نفسه تتحول الأبيات الشعرية ذاتها إلى أمثال، وحكم، كما هو حال الكثير من أبيات الشاعر الكبير الماجدي بن ظاهر الذي ما زال الإماراتيون حتى اليوم يرددون أبياته كلما استدعى الحدث أو تداعت الحكمة.

صوت التجربة

مقابل هذا الاشتغال على أساليب القصيدة الشعبية الإماراتية، وما فرضته التجارب السيرية للشعراء، تنكشف صور القصيدة الغزلية بتجليات متعددة، في سياق التشكي، والوصف، لمغامرة الشعراء العشاق، ففي القصيدة التي كتبها الشاعر خميس المزروعي يعلو صوت التجربة الذاتية، والخواطر الشخصية لكتابة قصيدة غزلية يصف فيها إعجابه بثلاث فتيات شغلن قلبه، إذ يقول:

ثلاث جَنّي في منامي وفزيت

                            أبكار ما فيهن مزوع ووديه

وسهرت لو نافي حلى النوم غضيت

                            الأولى صابتني بالرميّة

الثانية عنود الصيد ما مثلها ريت

                           والثالثة حطت جروح غبيّه

شروى الفنر يوم هبطت داخل البيت

                         فقن وخلن دمع عيني نحيّه

يكتب المزروعي في قصيدته هذه، صورة للعلاقة بين هواجس الشاعر، وسيرة عشقه مع القصيدة الشعبية، إذ تتحول القصيدة إلى وثيقة جمالية يمكن الاستناد عليها في توثيق سير الشعراء، والأماكن التي مروا بها، إضافة إلى تاريخ عائلاتهم، وأبرز ما شغلهم في تلك السنوات الماضية.

خطاب

لا يمكن النظر إلى القصيدة الشعبية بوصفها خطاباً شعرياً جمالياً قائماً على الكتابة باللهجة المحكية وحسب، وإنما هي منفذ لقراءة سلسلة من التحولات التاريخية، سواء على صعيد الشاعر ذاته، أو المفردة، أو حتى الجغرافيا والمكان.

Email