تعددت وظائفه ومضامينه الوجدانية في سياقاتها الشعبية

الزمن في القصيدة.. جماليات الليل وقداسة التاريخ

ت + ت - الحجم الطبيعي

لم يشكل الزمن على صعيد القصيدة محوراً رئيسياً في تحليل النص وقراءته بأبعاد ودلالات جديدة، كما فعلت الصورة الشعرية، والوزن، وفرادة التعبير، وجزالة اللغة، والذاكرة وغيرها من المحمولات التي يعاد فيها قراءة القصيدة نقدياً. رغم ذلك يجد الباحث في مدونة الشعر أن الزمن في القصيدة شكّل منفذاً واسعاً أمام الكثير من الشعراء..

وظل ركناً مركزياً في بناء النص الشعري، لذلك يمكن الوقوف عند مظاهر الزمن في القصيدة الشعبية الإماراتية، إذ انشغل الشعراء الإماراتيون كثيراً بمفهوم الزمن، وحضوره في بناء القصيدة، وتعدد أشكال حضوره حتى صار له من الدلالات ما يكفي ليغني فضاء القصيدة جمالياً، فلم يكن حاضراً على صعيد زمن الفعل داخل النص.

وإنما تعدى ذلك إلى مستويات كثيرة، منها ما يتعلق بالنص ذاته، وآخر يتعلق بالشاعر، إضافة إلى ما يرتبط بتماسك أو غنى الصورة الشعرية، التي تعددت أشكالها بين جماليات الليل وقداسة التاريخ، وتظهر كل تلك التحولات من خلال نماذج مختارة من مدونة القصيدة الشعبية المحلية.

روح ومحمولات

تتجلى واحدة من أشكال الاشتغال على الزمن في واحدة من القصائد المعروفة للشاعر أحمد بن علي الكندي، التي يقول في مستهلها: »ليتك تجي يا نود«، إذ يستخدم فيها الشاعر واحدة من العلاقات الشعبية المتوارثة التي بناها أهل البر والبادية مع الزمن بصورة عامة، وهي علاقة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمجمل التراث الشعري العربي القديم، فيقول:

ليتك تجي يا نود في مطلع سهيل

ما جا هبوبك من اقبال الجزيره

مللّت قلبي من مبيتي ولمجيل

ما يوم تمضي له ساعةٍ له سريره

يا ضيق بالي يوم يأتيني الليل

ليل يظوّى لي طواري كثيره

الناس تمسي به رقود مذاهيل

وأنا كما الحراس عيني سهيره

عينٍ تساهر بالدموع الهماليل

تختال لماع البروق المنيره

ويحضر الزمن في الشطر الأول من بيت القصيدة، إلا أنه يهيمن على فضاء القصيدة بأكملها، ويظل يحكم بناءها منذ الشطر الأول حتى ختامها، فالأمنية التي يختارها الشاعر هي الحالة الشعرية التي تتركم عليها الصور الشعرية، وتتشعب منها حكاية عشق الشاعر، وتشكيه من هجران محبوبته، إذ يقول »ليتك تجي يا نود مع مطلع سهيل«.

وهو بذلك يختار الزمن الذي يرغب فيه لقاء معشوقته، فيشبه معشوقته بالنسمة التي تهب من جهة الجزيرة العربية، ويتمنى أن تمر هذه النسمة مع مطلع نجم سهيل.

يوظف الشاعر واحدة من الحكايات التي عرفها العرب مع النجوم من خلال استخدامه لنجم سهيل، ويختار الليل مساحة زمنية لتذكر معشوقته، كاشفاً عن السهر والسهد الذي يصيبه على غيابها، فيقول: »الناس تمسي به رقود مذاهيل/ وأنا كما الحراس عيني سهيره«.

ويظهر الاشتغال ذاته على زمن الليل بوصفه مفتاحاً لكشف المخبوء من الحب، وتقلباته، وعذاباته في قصيدة الشاعر خميس المزروعي، فهو الآخر يوظف الليل كفضاء زمني يمكن أن ينقل القارئ والمستمع إلى صورة الشاعر، وآثار العشق البادية عليه، فتبدو العلاقة بين الزمن والقصيدة علاقة تكاملية فيقول:

البارحة يوم الخلايق ينامون

جفني جفن نوم العرب ما يوابله

لا أرقد ولا أغضي مع اللي يغضون

ولا عرفت أول يومي من قوايله

شفني من الهجران ما شيل ما عون

حالي نحل والحيل نست فصايله

أنا أختال وأرابي مع اللي ريابون

بعيد المسافة لي نجازه زمايله

ولوما محاتي في القفالي يسبون

ويقولون ذا مجنون بانت فعاليه

لا رفع بصوت يرج اللي ينامون

وأوايب الورقا على كل طايله

من ونتي الخطر الرزايا يشيبون

ويصبح جديد الخد ملح ذوايله

دكت هواجيس الحشا يوم يطرون

ونسيت ما في الليد لو كنت شايله

ويكشف المزروعي في قصيدته عن صور متعددة للزمن، منها في قوله: »ويصبح جديد الخد ملح ذوايله«، وأخرى في قوله: »دكت هواجيس يوم يطرون« ففي الشطر الأول يوظف وقت الصبح للإشارة إلى العلاقة بينه وبين التجدد، والشروع، والبدء في حالة جديدة، وفي الشطر الثاني يختار اليوم بوصفه معياراً لرسم صورة الأثر على الشاعر، إذ يقرن تعب هواجسه في اليوم الذي يذكرونه فيه.

بناء شعري

ليست تلك وحدها الصور التي يحضر فيها الزمن بوصفه فاعلاً رئيسياً في تشكيل البناء الشعري للقصيدة الشعبية الإماراتية، فالمعاين للقصيدة التي قالتها »فتاة العرب« في مدح صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، يجد أن الزمن كان هو عماد النص الشعري، وحجر الأساس في معماره الجمالي، حيث قالت:

كم سجل التاريخ له من نبأ عالي

في الطايلات وكلمة الصدق تنقالي

قرم المعالي تأخذه لأريحيه

يهتز مثل السيف في كف نزالي

طلنا السما به وافتخرنا بفخره

وشفنا المجره تحتنا وطية أنعالي

إن سلتني منهو: فهذا محمد

بن راشد المكتوم ممدوح لأفعالي

خذ ما سمعت وخل ما شيت دونه

تلقاه لأول في الندى هوب في التالي

أعتى العواتي لو جست ما تهمه

ولا تبطره لو له تساعد بالقبالي

تتجلى طاقة الزمن الكاملة في مفردة واحدة داخل القصيدة، وتفرض صورتها على مجمل أشكال المدح التي نسجتها الشاعرة في مجمل الأبيات، فما إن قالت الشاعرة »كم سجل التاريخ«، حتى تحول كل ما يرد من صفات، وخصال نبيلة إلى مدح يفوق المدح العادي العابر، إذ للتاريخ قداسته التي تضفي على الفعل والأثر بعداً جديداً يتعدى الراهن واليومي إلى الإنساني، والمستقبلي، وكأن للتاريخ صفة الخلود والديمومة.

حضور

يمكن القول بالاستناد إلى مجمل تلك التمظهرات التي يحضر فيها الزمن داخل معمار القصيدة الشعبية المحلية، إن الزمن يتعدى شكله القائم في المفردة، ليأخذ حضوراً طاغياً لا يمكن للقصيدة من دونه أن تصيب ما أرادت قوله، فهو المقدس في التاريخ، والوجداني العاطفي في الليل، وهو الجمالي في العتمة وما يحضر معها من عوالم، وهو الأصيل في كل فعل قبل أي شيء؛ ماضياً، ومضارعاً، وأمراً.

Email