عدسة الأيام

ناصر بن علي الدغيثر النجدي.. بطل معركة ميسلون

ت + ت - الحجم الطبيعي

نعم هو بطل من أبطال الجزيرة العربية، وواحد من رجالات مرحلة بناء الدولة السعودية الثالثة بقيادة الملك عبدالعزيز آل سعود رحمه الله، وشاهد على عصر التحولات في القرن 20، من أولئك الذين لا يعرف الكثيرون شيئاً عن سيرتهم وبطولاتهم، وفوق هذا كله، هو بطل من أبطال العرب في معركة «ميسلون» وقائد لجيش الهجّانة في الحرب العالمية الأولى، المكوّن من رجال «العقيلات» النجديين، وهو أول من دخل دمشق محارباً، واحتل قلعة «حلب»، التي كانت حصناً منيعاً عجز عنه الأبطال من قبله، ثم مرّ على ما حولها من المدن السورية، وأخضعها حتى ضم دير الزور، وهو الذي صد الجيش الفرنسي عن دخول دمشق وأوقف زحفه، ولأن وسائل الإعلام ومناهج التاريخ المدرسية ظلمته، ولم تعرّف به كما يجب، فإننا سنخصص هذه الصفحة للحديث عنه استناداً إلى ما كتبه الزميل منصور العساف في صحيفة «الرياض» السعودية (12/‏‏12/‏‏2014)، وما كتبه الزميل بدر الخريف في صحيفة «الشرق الأوسط» (30/‏‏3/‏‏2012)، مع الاستعانة - بطبيعة الحال - بمصادر ومراجع أخرى أتتْ على ذكره.

نسب

بطلنا هو ناصر بن علي الدغيثر، وآل دغيثر، طبقاً لما ورد في كتاب «جمهرة أنساب الأسر المتحضرة في نجد» للعلامة الشيخ حمد الجاسر (دار اليمامة للبحث والترجمة والنشر - الرياض)، هم من الرس وعنيزة والنبهانية، والذين في عنيزة جاؤوا من الرس، أما الباحث والمؤرخ السعودي عبدالله صالح العقيل فيقول في كتابه «المختار من القصص والتاريخ والآثار» أن جد آل دغيثر وآل معمر، حسن بن طوق، اشترى بلدة العيينة عام 850هـ، من آل يزيد من بني حنيفة أهل الوصيل والنعيمة الذين بقيتهم اليوم هم آل دغيثر المعروفون في الرياض.

ولد ناصر الدغيثر في مدينة الرس المعروفة منذ القدم ببطولة وشجاعة رجالاتها الذين قاوموا حملة طوسون باشا عام 1811م، ثم حملة إبراهيم باشا عام 1816م، ضد الدولة السعودية الأولى، وقاموا قبل ذلك بمقاومة حركة ابن عريعر، وعليه، فشخص من أحفاد هؤلاء الرجال الميامين لم يكن غريباً عليه أن يخوض ساحات الوغى خارج بلاده كما سنبين لاحقاً.

كان ميلاد بطلنا في عام 1308هـ، الموافق لعام 1888م - بحسب روايات من عاصروه - لأب توفي حينما كان ابنه ناصر في الـ9 من العمر، فدخل الأخير مجال العمل صغيراً من خلال رعاية الإبل ثم سافر إلى الحجاز لأداء فريضة الحج.

وفي الحجاز تنقل بين مدنها بعد انتهائه من أداء مناسك الحج إلى أنْ ألقى برحاله في المدينة المنورة التي اشتغل فيها لمدة سنتين لدى تاجر كويتي يدعى بن جوعان، فكان يعد له القهوة ويرافقه إلى الأسواق ويقضي حاجاته دون راتب، مكتفياً بالمأكل والمشرب والمأوى، ثم اشتغل لمدة عام عند أحد تجار الأقمشة من أبناء الرس المقيمين في المدينة فأعطاه مقابل ذلك 20 ريالاً، ثم انتقل للعمل لدى شخص آخر براتب 30 ريالاً في السنة، ثم تنقل في العديد من المهن، كما عـُرض عليه في هذه الفترة أن يصبح مملوكاً لأحد الأتراك فأبت عليه نفسه الموافقة. وهكذا قرر الرجل أن يلتحق بالجيش العُثماني الذي كان مهدداً آنذاك من قبل الحلفاء في الحرب العالمية الأولى، وكان هذا الجيش وقتها تحت قيادة عبدالله بن فيصل من رجالات الشريف حسين.

خلال هذه المرحلة، وتحديداً عام 1908م، ظهر القطار العُثماني الذي كان يربط تركيا بالمدينة المنورة، مروراً بحلب وحمص وحماة ودمشق وعمّان ومعان، فعمل حارساً للقطار على رأس 300 من رجال الهجّانة الموزعين على طول الخط، وخلال هذه الفترة أيضاً، قام بالحج مع المحمل الشامي والمحمل المصري للمحافظة على سلامة الحجيج والخط الحديدي وممتلكات الدولة العُثمانية الأخرى.

تجارة

ترك الدغيثر الخدمة لدى العثمانيين بعد أن بلغه خبر وفاة السلطان عبدالحميد وتولي السلطان محمد رشاد، واشتغل بالتجارة لحسابه الخاص فكان يبيع الجمال والسلاح اليوناني والإيطالي القادم بحراً بالسفن وينقلها على ظهور الجمال إلى ميناء «رابغ» ليسلمها هناك إلى عميل آخر، وحينما ظهرت بوادر الخلاف سنة 1913م بين الشريف حسين والدولة العُثمانية، أمره الشريف بتجنيد الهجّانة من مكة والطائف ومناطق أخرى، والإشراف عليهم تحت قيادته.

ومع ظهور الانشقاق بين الشريف والعُثمانيين، وتحسباً لهجوم العُثمانيين على الحجاز لإخضاعها، قام الدغيثر بعمل بطولي لصالح الأشراف تمثل في ذهابه مع 100 من الهجّانة إلى الخط الحديدي فقاموا بتفكيك المسامير الرابطة بين الوصلات الحديدية للخط كي يقطعوا خطوط تموين القوات التركية ويعرقلوا تقدمها.

ولاحقاً قام بعمل بطولي آخر ضد الدولة العُثمانية، وذلك حينما قاد 35 متطوعاً من «العقيلات»، وشارك بهم في عملية مع الشيخ عودة أبو تايه عودة، ومحمد بن دحيلان أبو تايه، تحت قيادة الشريف ناصر، حيث انطلقوا باتجاه الشمال الشرقي، وعبروا خط سكة الحديد وفجّروا عدداً من قضبانها وقطعوا أسلاك الهاتف الخاصة بمراكز قيادة قوات الاحتلال التركي؛ لقطع اتصالهم مع قيادتهم الألمانية بمعان، ثم مضوا في سيرهم فعبروا سهل الحول ووادي فجر وسهل البسيطة، وأخيراً، بلغوا عرفجه على رأس وادي السرحان، ومنها انتقلوا إلى العيساوية، في رحلة استغرقت 18 يوماً في صحراء موحشة قاحلة لا ماء فيها ولا أثر للحياة.

بعد مؤتمر الصلح في باريس سنة 1919م، الذي لم ينصف العرب، بل قرر تقسيم واستعمار بلادهم، غضبت فرنسا على ردود الأفعال العربية، وشنت حملة على سوريا ووجه جنرالها هنري غورو، إنذاراً عام 1920م إلى الحكومة السورية تحت قيادة الملك فيصل الأول بحل البرلمان والجيش العربيين، ووجوب تسليم السلطة للفرنسيين، فتردد الملك ومجلس وزرائه ما بين الموافقة والرفض، ثم اتفق أكثرهم على التسليم حقناً للدماء.

غير أن وزير حربيته، القائد السوري يوسف العظمة، رفض الوضع وقرر المقاومة عبر الاعتماد على المتطوعين العرب من الجزيرة العربية وبلاد الشام، فكان الدغيثر وجماعته من «العقيلات» في مقدمة المتطوعين إلى جانب قبائل «الحويطات» بقيادة الشيخ عودة أبوتايه وقبائل «الرولة» بقيادة الشيخ نوري الشعلان. وقد أبلى الدغيثر بلاء حسناً في معركة ميسلون التاريخية التي دارت رحاها في يوليو 1920م، في سهل ميسلون بين المتطوعين العرب بقيادة العظمة وجيش الفرنسيين بقيادة الجنرال غورو.

ميسلون

وفي سياق الحديث عن التحضير لمعركة ميسلون، وكيفية التحاقه ومن معه بها، يروي عبدالله العقيل في ترجمته للدغيثر على لسان الأخير قوله إنه كان في عام 1334هـ في ديرة أبوشامة، حيث كان مقاتلاً قائداً في جيش الشريف فيصل بن الحسين، وقد التقى هناك بالقائد البريطاني لورانس الذي كان وكيلاً للإنجليز عند الشريف فيصل، ينقل منه وإليه الرسائل ويرصد الأحداث لنشرها في كتابه الشهير «أعمدة الحكم السبعة»، بدليل أن لورانس أورد اسم الدغيثر في مواضع عدّة من كتابه وأشاد ببطولاته.

ويستطرد فيقول ما مفاده، إنه بعد عدّة شهور من دخول الجيش العربي إلى سوريا، وتتويج الشريف فيصل ملكاً عليها عام 1920م، كلفه الشريف المتوج بتشكيل فرقة من المقاتلين لمجابهة الجيش الفرنسي القادم من لبنان.

وأنه قام بتسجيل 500 هجّان من أهل نجد، ثم يضيف بأنه توجه في أوائل العشرينيات نحو ميسلون، وهو واد بين جبلين، للمشاركة في المعركة بين العرب والفرنسيين على رأس أولئك الهجّانة الذين كانت أسلحتهم محدودة ومحصورة في البنادق التركية والإنجليزية، وذخيرتهم قليلة، واستعدادهم ضعيفاً، ولكن العزيمة والشجاعة والتوكل على الله كانت تحدوهم للتقدّم؛ لمحاربة الأعداء المسلحين بأسلحة حديثة فتاكة.

في هذه المعركة غير المتكافئة عدّة وعتاداً، والتي عيـّن فيها الدغيثر 3 ضباط على رأس كل 100 هجّان ونصّب نفسه قائداً عاماً للمجاهدين، كاد أن ينتصر العرب في المعركة، لولا لجوء الفرنسيين إلى استخدام سلاحهم الجوي.

على أن الدغيثر، حتى وهو في حالة الشعور بالهزيمة؛ بسبب نفاد الذخيرة والقصف الجوي، حاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه وتقليل خسائره إلى أقصى حد، فأمر جنوده بالخروج من وادي ميسلون حتى لا يبيدهم الفرنسيون أو يقبضوا عليهم. وقد ذكر الدغيثر أسماء بعض من القادة النجديين الذين نصبهم على رؤوس الهجانة فأورد أسماء: فهد بن شارخ من الرس، وسعد السكيني من الرس، وعبدالله المكرش من عنيزة، وناصر بن حمود من عنيزة، وفهد بن عبدالله الوهيبي من الخبراء، وعبدالله بن سليمان بن عيسى من بريدة.

بطل ميسلون

ويُروى أن الدغيثر عاد إلى سوريا بعد سنتين من إنتهاء الحرب وسقوط الحكم العربي الفيصلي، واستشهاد الكثيرين من المقاتلين العرب وعلى رأسهم قائد الجيش النظامي يوسف العظمة، والتقى هناك ببعض معارفه فأخبروه أن أنباء بطولاته بلغت مسامع السوريين وأن هؤلاء حملوا في ساحة المرجة بدمشق صورة التقطها له المصور الأرمني الدمشقي آنوش هاكوبيان، وهو يمتطي صهوة جواده ويشهر سيفه، وكتبوا تحته بطل ميسلون. أما في ميسلون فقد أقيم نصب تذكاري يوثق أسماء شهداء المعركة ومن حارب فيها دفاعاً عن أرض العرب وكرامتهم، ومنهم الدغيثر.

وفي هذا السياق، يقول المؤرخ الكويتي يعقوب الرشيد في مقال له بجريدة «الجزيرة» السعودية (31/‏‏3/‏‏2013)، ما مفاده إنه إلى جانب رفع صورة الدغيثر في ساحة «المرجة»، انتشرت الكتابات على جدران الساحة من تلك التي تحدثت عن بطولاته دون أي ذكر لدور الجيش النظامي وقائده يوسف العظمة «لأنهم لم يكونوا بالمعركة؛ لأن الجيش النظامي كان قد حُلّ بطلب من بريطانيا للخروج من سوريا».

ويضيف الرشيد قائلاً إنه عندما دخل الجنرال غورو دمشق، طلب إبقاء الصور والكتابات في أماكنها، لأن صاحبها مقاتل شجاع، وقائد بارع يستحق ذلك، ويخبرنا الرشيد أيضاً، أن غورو حينما أراد إنشاء جيش الدرك في سوريا اعتمد اختيار أولئك الشجعان البواسل الذين قاتلوه بشراسة في معركة ميسلون، فكان مرؤوسوه الفرنسيون يسألون المتقدم للتجنيد «هل أنت من الرس؟»، فإذا قال نعم، ألحقوه مباشرةً بالقطعات، تماماً مثلما فعل الجنرال البريطاني غلوب باشا، إبّان تأسيسه للفيلق العربي الأردني، حيث استعان بالأبطال الذين قاتلوه في معركة الشعيبة التاريخية التي دارت رحاها شمال قصبة الزبير غرب البصرة، بقيادة سليمان باشا قائد الجيش التركي، وأبوفارس مولود مخلص التكريتي قائد الفرسان، وغيرهما من المجاهدين البواسل من أهل الزبير.

حنكة

لقد أشاد الكثيرون بشجاعة الدغيثر وقوة عزيمته وحنكته في الحرب، وفي مقدمتهم خصمه اللدود الجنرال غورو، والمؤرخ لورانس. كما ذكره أمير الشعراء أحمد شوقي في إحدى قصائده، وأتى على ذكره أيضاً أحمد قدري في مذكراته عن الثورة العربية في صفحة 274 حينما كتب أن المتطوعين غير النظاميين بقيادة الدغيثر «أبلوا بلاءً حسناً في مقاومة الجيش الفرنسي ولم يمكنوه من دخول وادي بردى للالتقاء بالقوات الفرنسية التي سلكت الطريق العام فضحّوا محتسبين بشهداء كثيرين إلى أن اضطروا للانسحاب وقد أكرمهم الملك فيصل فوزع عليهم ما كان قد تبقى في حوزته وهو ما يقرب من سبعة آلاف جنيه لا يملك بعدها ما يستحق الذكر».

في السياق نفسه، ذكر الكاتب الأردني سليمان موسى أن عدداً من رجال الأشراف اشترك مع «العقيلات» في معركة ميسلون منهم: محمد علي البديوي، والشريف علي بن عربد، مضيفاً بأن: «تفويض الشريف لابن دغيثر بقيادة الجيش يدل على ما يتمتع به من شجاعة وحنكة وحسن تصرف وبصيرة ثاقبة بأعمال الحرب، ما جعل الشريف يختاره من بين مجموعة من الرجال الذين كانوا حوله، وإلا لو كان يوجد من هؤلاء الأشراف من هو أقدر من ابن دغيثر في قيادة المعركة لجعله الشريف على قيادتها».

بعد بطولاته ومعاركه في الشام عاد الدغيثر إلى القصيم، وجلس فيها لبعض الوقت، ثم سافر إلى المدينة المنورة، حيث مارس الاتجار في الجمال كغيره من رجال «العقيلات»، فكان يشتري الإبل والماشية من المدينة المنورة وما حولها من القرى والبوادي ويبيعها في الشام ومصر والأردن، ثم يشتري بثمنها بضاعة ويعود لبيعها في أرض الجزيرة العربية. واستمر على ذلك فترة من الزمن.

ترجّل الفارس

من بعد عمله في مكة، عاد ناصر الدغيثر إلى القصيم عام 1938م، واستقر فيها، وأخذ يعمل برعي الماشية داخل البلدة أو في البراري المجاورة، يبيع ويشتري منها. وفي هذه المرحلة من حياته حفر بجوار منزله بئراً عرفت باسمه «حسو ابن دغيثر»، تركها لمن يحتاج للسقي.

وحينما تقدم به العمر، ترك تجارة الماشية وتفرغ للراحة.. يستقبل وجهاء بلدته ويتسامر معهم ويستعيد وإياهم ذكرياتهم الغابرة. وظل على هذه الحالة إلى أن شعر ذات يوم بتضاعف آلامه فنقله أبناؤه إلى مستشفى القوات المسلحة بالرياض، حيث توفي فيه رحمه الله يوم 16 ديسمبر 1986م، عن 98 عاماً.

وظيفة رسمية

في عام 1928م، وبعدما عاد الدغيثر إلى المدينة المنورة من إحدى رحلاته مع «العقيلات» أبلغه وزير مالية الملك عبدالعزيز، بأن الملك نصبه قابضاً للزكاة في «الحناكية» (ثالث أكبر محافظات منطقة المدينة المنورة حالياً).

فبقي يعمل في هذه الوظيفة فترة من الزمن قبل أن ينتقل إلى «السويرقية» (قرية من قرى محافظة نهد التابعة لمنطقة المدينة المنورة) بأمر من الملك عبدالعزيز كي يكون عاملاً على زكاتها. وفي نهاية عام 1933م تم تعيينه من قبل الملك آمراً لمالية الجوف، ثم انتقل بأمر الملك إلى مكة المكرمة مكلفاً بتحصيل رسوم الحج بواقع أربعة جنيهات عن كل حاج، وقد زودته الدولة حينذاك بجهاز «تلغراف» خاص، كي يستطيع الإبراق للملك عند الحاجة واستلام التعليمات البرقية منه. وبعد مهمته في مكة انتقل إلى المدينة، حيث عين عاملاً على زكاة أهلها، وما بين هذا وذاك، كان الملك عبدالعزيز يعهد إليه بمهام أخرى متفرقة لما لمسه فيه من إخلاص وشجاعة والتزام وصلاح.

صفحة مُتخصّصة بالتأريخ الاجتماعي لمنطقة الخليج العربي

Email