جذور

دليل الخليج بين لوريمر وحقائقه المُدَوَّنة (1)

ت + ت - الحجم الطبيعي

يعدّ كتاب «دليل الخليج» موسوعة قيمة، جمع شتاتها جون لوريمر في عدّة مجلّدات، قسّمها بين التاريخ والجغرافيا، باعتبارهما أصْلين للعلوم الإنسانيّة التي تتحدّث عن الإنسان والمكان في كلّ ظروفهما، ومواقعهما، وأحوالهما.

وبذل لوريمر جهوداً مضنية في جمع كتابه مما تحصّل عليه من معلومات دُوّنتْ في تقارير، ومضابط، وأخبار، تمتدّ زمنيّاً من نهاية القرن الثامن عشر إلى عام 1908. وهي فترة طويلة من الزمن، تمكّن المؤلف من تغطيتها في هذا الكتاب الموسوعي المهم.

أفرد المؤلِّف للقسم الجغرافي ثلاثة مجلّدات كبيرة ضمّنها معلومات جغرافيّة وتضاريسيّة وبيئيّة وأنثروبولوجيّة وجيولوجيّة واقتصاديّة واجتماعيّة ومعماريّة، جعلتْ منه مصدراً مهمّاً، لا يستغني الباحثون عن الرجوع إليه، مع الأخذ بعين الاعتبار المنطلقات البريطانيّة ذات النظرة الشموليّة الاستعماريّة التي أحاطتْ بكلّ تلك التقارير.

وقد اتبع لوريمر منهجاً عامّاً في كل القسم الجغرافي من حيث ذِكر الموقع الجغرافي بما فيه من صفات وبمَن فيه من سكّان، ووضعها حسب النّطق العربي بالخطّ اللاتيني.

كتبتْ ريم الكمالي منذ مدّة مقالاً حول كتاب «دليل الخليج» للوريمر، وأشارتْ إلى ما احتواه الكتاب من معلومات، أوردتْ بعضها حول دبي.

وفي حقيقة الأمر فإنّ الكتاب والكاتب كانا ولا يزالان محطّ الأنظار، ومحلّ الاستفسار والسؤال من القرّاء والمتخصّصين. وهما على الرغم من مرور الزمن إلا أنّهما ظلّا مخزنين يستقي منهما الباحثون معلوماتهم التاريخيّة والجغرافيّة والاقتصاديّة والبيئيّة، وكلّ ما له علاقة بمنطقة الخليج العربي في عزّ النفوذ البريطاني في المنطقة.

إذ كان لوريمر يمثّل السلطة العليا في شرقيّ شبه الجزيرة العربية. وهو بالتالي حين يدوّن ما سمع وما شاهد وما قرأ، فقد بلغ عنده العلم مبلغه من التأكّد والتأكيد، ومن التثبّت والتثبيت، ولهذا يراه الباحثون مصدراً لا غنى لهم عنه.

والكتاب كان ولا يزال يشغل بالي، وكنت أتمنّى أن تتشكّل لجنة تضمّ مؤرّخين وجغرافيين واجتماعيين وأنثروبولوجيين وأثريين ومعماريين يعملون على دراسة وتحليل هذا الكتاب الموسوعي الرائد.

حياة ونشأة

من الملاحظ أنّ الحياة الشخصيّة لجون غوردون لوريمر (John Gordon Lorimer Lorimer) من طفولته إلى كهولته، بل إلى وقت وفاته، مليئة بالنّشاط والحيويّة الدّالة على ما تمتّع به هذا الرجل من حركة وعمل دؤوب خدم فيه المملكة البريطانية بإخلاص وتفانٍ. وهي صفة لازمتْ كثيراً من الساسة والإداريين والعسكريين في عصره.

وهي صفة رائدة وجميلة حين تظهر في أولئك المتفانين في خدمة وطنهم. وهو وغيره كانوا يرون أنّ بريطانيا العظمى ستظلّ عظيمة مادام فيها رجال مخلصون مثلهم. وهنا نقطة الارتكاز التي قامتْ عليها حياة لوريمر.

وهنا أيضاً يضفي على كتابه مسمّى موسوعة؛ لأنّه اتسع لكلّ شاردة وواردة عن الأرض وأهلها، وحوى كل خبر عن هذه البلدان وشعبها، فهي تعبّر عن واقع تاريخي وجغرافي وبيئي واقتصادي آنذاك. حفظه لنا لوريمر في موسوعته هذه.

بلا شكّ، فإنّ هذه الموسوعة الرائدة لا يتّفق عليها الباحثون والمتخصّصون فربما ينقدون ما فيها، وربما يرفضون ما بها، إلا أنّهم يتفقون على ريادتها في زمانها وفي تدويناتها. والأحاديث عن شخصيّة لوريمر ونشأته وولادته وتعليمه وتدرّجه الوظيفي والإداري أشار إليها كثيرون، كما زخرتْ بها شبكة المعلومات الدولية وبكلّ اللغات.

بما في ذلك غرابة نهايته المأساويّة، بانطلاق رصاصة كانت محشورة في ماسورة بندقيّة له، أدّت لإصابته في مقتل، ولفظ أنفاسه الأخيرة بعد نزيف حادّ في معدته.

تأبين وتشييع

من الأمور المثيرة أنّ كلمات التأبين التي قيلتْ في حقّ لوريمر، تدلّ على عظم مكانته في نفوس الساسة والعسكريين البريطانيين. وفي الوقت نفسه شهد تشييعه كثيرون ممن كانوا يشعرون بالأسى والحزن على فِراق هذا الرجل الفذّ حسب كلمات التأبين.

وممّا يدلّ على ذلك ما دوّنه دانيال لو (Daniel A. Lowe) بعنوان: Gulf Tragedy: Political Resident Shot (مأساة الخليج العربي: وفاة وتَرِكة جون جوردون لوريمر) نشره في 10 فبراير 1914 في Times of India.

ويرد في التقرير أنّه بعد الحادث بأربعة أيام، نقلتْ السفينة البخارية «بارالا» أخبار وفاة لوريمر إلى الرائد آرثر پريسكوت تريڤور (Arthur Prescott Trevor)، (توفّي في 4 أبريل 1930) الوكيل البريطاني في البحرين الذي سجّل في يومياته أنّ:

«الأخبار المفاجئة والمؤسفة صدمتْ الجميع». وأمر بتنكيس عَلَم الوكالة وإغلاق المكتب في اليوم التالي، توقيراً وتقديراً للراحل الكبير. وأبدى الجميع حزناً بالغاً على رحيله المبكّر والمفاجئ، بمَن فيهم تجّار ووجهاء البحرين وأفراد من الجاليات الأجنبيّة الذين حضروا إلى الوكالة لتقديم التعازي.

وعندما بلغت الأخبار حاكم البحرين الشيخ عيسى بن علي آل خليفة (توفّي في 8 ديسمبر 1932)، المقيم في المُحرَّق آنذاك، أمر بتنكيس الأعلام في محلّ إقامته وفي مكتب الجمارك. وتوجّه ابنه الشيخ عبد الله (توفّي في 23 أبريل 1966) إلى المنامة لتقديم التعازي، بينما حضر الشيخ عيسى شخصياً بعد عدّة أيام.

وقد تطرّقت الصحف في البحرين والهند إلى حصول لوريمر على تعليمه في جامعة إدنبره وأوكسفورد ومجّدت إنجازاته في الخدمة المدنية الهندية. كما قيل عنه أنه: «أحد أكفأ المسؤولين في وزارة الخارجية»، وبأنه كان يحظى «بأصدقاء كُثُر في الدوائر الرسمية».

تعليم ونشأة

من الغريب أنّ هذا الرجل نشأ نشأة شبه عسكريّة، ودبلوماسيّة، وتربّى تربية مهنيّة يغلب عليها الطابع الإداري. وهذا الطابع العسكري اتضح على أغلب المسؤولين البريطانيين في منطقة الخليج العربي وشبه الجزيرة العربية.

وهم مع غلبة هذا الطابع عليهم، إلا أنّهم كانوا روّاداً في كتابة التقارير المتنوّعة الشاملة الدقيقة في شؤون الخليج، وكأنّهم أُعدّوا إعداداً متقناً في جانب الثقافة والعلم، كما كانوا في الوقت نفسه عسكريين من الطراز الأول.

وهذا ملاحظ في كلّ المسؤولين البريطانيين، ومَن يقرأ تقاريرهم ووثائقهم ومراسلاتهم يجد دقّة وإتقاناً وشموليّة، وبطبيعة الحال هم يمثّلون شخصيّاً ونفسيّاً وإداريّاً السلطة البريطانية الحاكمة والمتنفذّة في شرقيّ شبه الجزيرة العربية. وهم بالتالي يعملون ليل نهار على دعم حكومتهم بكلّ قدراتهم مع إخلاص وتفانٍ، وهذا فعلاً ما يلفت النظر.

سفر عظيم

وكون الكتاب موسوعة فهو شامل، متنوّع الميادين، متعدّد المسارات، وفي الوقت نفسه هو كثير المصادر، والمناهل، والمنابع. ومما يدلّ على دقّة هذا الرجل واهتمامه ونظرته الشموليّة، ذلك التقرير الذي أعدّه بشأن رحلته في مناطق شبه الجزيرة العربية الخاضعة للحكم العثماني وإقليم كردستان من 18 أبريل إلى 22 مايو 1910. وكان حينها في وظيفة المقيم السياسي البريطاني في بوشهر، وكان في صحبته مساعد الملحق التجاري في المقيميّة السياسيّة البريطانيّة في بغداد.

وبأسلوب سلس، متواصل قسّم تقريره إلى أقسام يصف كل قسم منها يوماً من الرحلة بالتحديد، بل بلغتْ به الدّقّة في ذِكر الساعة من نهار أو ليل وبالدقيقة، ذاكراً وقت الانطلاق أو التوقّف أو الوصول. مع تبيان مكان كلّ منها إضافة إلى الوجهات النّهائيّة، والوقت المستغرق في السَّفَر. شارحاً السمات الطوبوغرافية للطريق الذي سلكه، بما في ذلك رسومات في بعض التدوينات.

وكلّ ما يصادفه في دربه، من مناجم، ورحلات صيد، ومواقع دينيّة من أضرحة ومساجد ومعابد ومزارات وأطلال وآثار، وعمائر تراثيّة، ومدارس، وأماكن إنتاج النفط الخام. ولم يغفل توزيع السّكّان من مسلمين وغيرهم، ذاكراً مذاهبهم وعقائدهم. وطُبع هذا التقرير في مطابع المونوتايب الحكومية في شيملا عام 1913. وفيه لمحة عن أسلوب الرجل في تسجيل كل ما يراه أو يسمعه أو يلمسه، بل حتى كلّ ما يتذوّقه بلسانه.

جيل رائد

مثل جون لوريمر جيلاً من الرجال المخلصين الذين وضعوا أنفسهم في خدمة حكومتهم. ومَن ينظر إلى ما دوّنه سابقوه، ثم ينظر فيما دوّنه في «دليل الخليج»، يجد تطابقاً في الإحصاءات وتركيزاً في المعلومات على الرغم من اختلاف الفترات الزمنيّة وتغيّر بعض موازين القوى في المنطقة. وحين نراجع ما كُتب حول جون لوريمر من معلومات نجد التركيز على كونه موظّفاً أو إداريّاً أو دبلوماسيّاً.

ولكن كثيراً ما يتبع ذلك قولهم إنّه مؤرّخ وجغرافي مع أنّه لم يدرس التاريخ والجغرافيا، أي لم يتخرّج في جامعة في هذين التخصّصين، إلا أنّه يظلّ يوصف بذلك. والسبب فيما يبدو أنّ «دليل الخليج» احتوى على التاريخ والجغرافيا عنواناً ومضموناً. ما يعني أنّ لوريمر أُعدّ إعداداً شاملاً، وهي صفة غالبة على معاصريه.

Email