جذور

مالك بن فهم الأزدي.. بين حقائق التاريخ والقصص الشعبي (1-2)

ت + ت - الحجم الطبيعي

يعد الزعيم القبلي مالك بن فهم الأزدي أحد أهمّ الشخصيات المؤثّرة في تاريخ العرب قبل الإسلام. إذ مثّلت سيرة حياته ميداناً خصباً للحكايات والأخبار، وتميّزت المصادر العُمانيّة عن غيرها بذِكر التّفاصيل الدّقيقة عن ابن فهم وكأنّ أحداً يرسم حياته خطوة بخطوة ولحظة بلحظة، وبلغتْ التّفاصيل من الدّقّة درجة وصف لباسه وقت الحرب، وطريقة وضع عمامته وخوذته ودرعه، ومبارزته، وكأنّ هذه التّفاصيل تمّ نقلها عبر شاهد معاصر، وإلا كيف تسنّى للرواة رسم مثل هذه الصّورة البالغة في الدّقّة؟ كما أنّ مثل هذه التّفاصيل بدءاً بهجرة مالك بن فهم من اليمن إلى انتهاء حياته، لم ترد في أجزاء كبيرة منها في المصادر العربيّة الإسلاميّة العامّة التّاريخيّة والجغرافيّة والأدبيّة وغيرها.

تفاصيل

وتسهب المصادر العُمانيّة في الحديث عن مسير مالك من اليمن إلى عُمان، وترسم طريق هجرته، وتحدّد مواضع نزوله حتى وصوله إلى إقليم عُمان، وهناك تقدّم تفاصيل مهمّة عن أماكن توقّفه واستراحاته، وخوضه الحرب ضدّ القوات الفارسية الكثيرة، بينما هو كان في 6000 فارس وراجل.

وفي سياق الحديث عن المعركة، ذُكر أنّ مالكاً ركب فرساً أبلق ولبس درعين، ولبس عليهما غلالة حمراء، وتكمّم على رأسه بكمّة حديد، وتعمّم عليها بعمامة صفراء، وصفّ فرسان الأزد الذين كانوا متقنّعين بالدّروع والخوذ الحديديّة حتّى لم يبدُ منهم سوى الحدق، وقام مالك بتشجيع أصحابه وحثّهم على الصّبر والاستماتة في القتال، ولمّا التقى الجمعان صبر العرب صبراً عظيماً، وقاوموا الفرس أشدّ المقاومة، واستمرّ القتال 3 أيّام، وانتهى اللقاء بانهزام الفرس بعد أن قُتل منهم الكثير وأُسِر آخرون.

كرٌّ وفرٌّ

ثم تكرّرت الصدامات مع الفرس، الذين استعدّوا له مرة أخرى بجيش أكبر عَدداً وعتاداً، إضافة إلى الفِيَلَة، وحين تفاوض معهم على تجنّب الصراع لم يقبلوا منه ذلك، ولم يسمحوا له بالإقامة مع قومه في المنطقة، ما أدّى في النهاية إلى حدوث معركة جديدة بين الفريقين، واستعدّ الفرس للحرب وصالوا وجالوا وحشدوا وضربوا الطّبول وعبّؤوا جيشهم تعبئة كاملة، وكانوا في 40 ألفاً، وقيل 30 ألفاً، مع أعداد من الفِيَلة.

وكان مالك وقومه في بضعة آلاف فارس وراجل، وعسكر مالك مقابل الجيش الفارسي، وكان يلبس درعيه، وعليهما غلالته الحمراء، ويلبس على رأسه قطعة حديد وقاية من ضرب السّيوف وطعن الرماح، كما قام بتشجيع جنوده بخطبة بليغة حثّهم فيها على الصّبر، إذ استمرّتْ الحرب عدّة أيّام، انتصر فيها مالك وقومه.

هدنة قصيرة

بعد هذه الحرب شعر الفرس بعجزهم عن مجابهة مالك وجماعته، وأحسّوا بأنّ طالع نحسهم قد ارتفع في السّماء، في مقابل إقبال الأزد، حينها طلبوا من مالك الهدنة والصّلح والموادعة، على أن يرحلوا عن المنطقة بعد سنة، فبقوا في الأطراف في حالة أمن مسالمين للعرب ملازمين جوار البحر، وكانت الأزد ملوكاً في الدّاخليّة سهولها وجبالها. ولما بلغ الخبر للملك دارا بن دارا، استشاط غضباً من الهدنة، ولم يعجبه أمر الصلح، فأعدّ العدّة لحرب جديدة ضدّ مالك وقومه فأرسل الإمدادات وزوّد الجيش بعتاد كبير، واستعدّوا لقتاله، ومعهم الفيلة، واقتتل الجيشان قتالاً عنيفاً، وتنازل الأبطال واشتدّتْ الحرب، ودارت بين الفريقين معركة هائلة فاصلة، انهزم فيها الفرس هزيمة منكرة، واضطرّ الفرس للهرب وركبوا السّفن وعبروا إلى أرض فارس. واستتب الملك لمالك فملكه وسار فيه سيرة جميلة.

زعامة العرب

استولى مالك على المنطقة كلّها وأجلى الفرس عنها، وتسامعتْ به العرب وأقبلتْ عليه القبائل، وأصبحتْ أخباره تتناقلها العرب. وظلّ المُلك في أولاد مالك مدّة من الزّمن، وكان مالك بن فهم مهاب الجانب عند القبائل. وبفضله استقرّت قبائل الأزد في الإقليم وتوزّعوا الإقامة فيه. وبعد أن توطّد السّلطان لمالك في إقليم عُمان امتدّ نفوذه خارجه فضمّ إليه إقليم البحرين ثم العراق، وأخذ في التّنقّل في ربوع المنطقة يتفقّد أحوالها، ودام حكمه نحو 70 عاماً، ولم ينازعه في مُلكه منازع من العرب أو من العجم، ومَلَكَ على مضر 20 عاماً، وعاش 120 عاماً.

وفاة ابن فهم

يُذكَر أنّ وفاة مالك، كانت نتيجة كيد أبنائه، إذ كان يؤثر ولده سليمة على بقيّة إخوانه، وكان ولداً نجيباً، وكان مالك بن فهم قد وضع أولاده حرّاساً عليه إذ لا يثق في غيرهم. وبدأ الإخوة بالكيد لأخيهم واتّهموه بالضّعف والعجز، وأوغروا صدر أبيهم على أخيهم، وفي نوبة حراسة سليمة خرج أبوه ليتأكّد من اتّهامات أبنائه لأخيهم، وهو في هذه الحالة أتاه ليلاً ولم يعلم سليمة أنّه أبوه فرماه في الحال فأصابه في قلبه فقضى عليه، وقال شعره المعروف في ذلك.

وهي قصيدة طويلة من 35 بيتاً، وكأنّها كشف حساب لتاريخه ودوره في الحياة والسّلطان، وتلخيص لسيرته وحياته منذ هجرته من اليمن إلى عُمان ومحاربته للفرس وملكه في عُمان، وفيها شكوى ووصْف وذِكر أحوال، غالباً ما يقولها الشّخص وهو في كامل قواه فكيف وهو مصاب إصابة بليغة أدّتْ إلى هلاكه في نهاية المطاف بل كان مركز الإصابة هو القلب، وكمقارنة بما ورد في غير المصادر العُمانيّة هو ما ذكره الأزدي في كتابه «تاريخ الموصل» من أنّ حادثة مقتل مالك لم تتضمّن الإشارة إلى الخلاف بين أبناء مالك وتحريض أبيهم على أخيهم، وأشار فقط إلى محبّة مالك لولده سليمة، وكان يخصّه بالعناية والتّعليم، وعلّمه الرّماية فمهر فيه، ويذكر أنّ سليمة خرج على نجيب له كأنّه أفعوان، وكان أبوه قد بعث مَن يأتيه بخبره فعرّفه أنّه قد رحل من موضعه إلى غيره فخرج في طلبه في غلمانه فخفى عليه أثره، فلمّا قربوا منه أحسّ سليمة بأخفاف الإبل ليلاً ورأى ركباً مسرعين، ففرّق سهمه وبرز من مكمنه وهو يرتجز، وسمع أبوه رجزه ولم يعرف صوته لوطء الإبل، فأسرع إليه سليمة فرماه فخرّ صريعاً فابتدره سليمة ليقبض عليه فعرف كلّ منهما الآخر.

وعند مراجعة الأبيات نلاحظ عدداً من الملحوظات الدّالّة على انتحال مثل هذا الشِّعر:

أوّلاً: الاختلافات في أعداد الأبيات وتسلسلها في القصيدة فهي في كتاب الأنساب 35 بيتاً، وما جمعه الكاتب أحمد محمّد عبيد بلغ 42 بيتاً.

ثانياً: الاختلافات في ألفاظ وكلمات القصيدة بين مصدر وآخر.

ثالثاً: غموض المعاني في كثير من الأبيات، فلا يعلم القارئ إلى ماذا تشير، مثل قوله:

ثأرنا المُلك يوم بني قباذ وبهمن والمنايا في العيان

فصالتْ فهم الأملاك فيهم بمرهفةٍ تحلّ عرا المثاني

رابعاً: قول مالك:

ثأرنا المُلك يوم بني قباذ وبهمن والمنايا في العيان

فأضحى بهمن وبنو قباذ موالينا حيارى في الرّهان

وفي الهيجاء كنّا أهل بأسٍ قتلنا بهمناً وبني كران

وأشعر أنّ هذه الأسماء مقحمة في القصيدة وليس لها صلة بالواقع التّاريخي الذي عاصره مالك بن فهم؛ لأنّ زمانه سبق عهد الملك قباذ (487-531م) بل كان قبل ظهور الدّولة السّاسانيّة بزمن وهي التي نشأتْ في عهد الملك أردشير بن بابك في نحو عام 224 أو 226م، ومالك كان في نحو عام 157 أو 195م، وسوف نشير إلى ذلك في الحلقة الثانية. وكان ذلك معاصراً للمملكة الپارثيّة، وتحديداً عهد الملك ڤولوچاسيس الرّابع أو بلاش (Vologases IV) (148-191م)، ولا يوجد اسم بهمن ضمن الملوك الپارثيين.

قصيدة خالدة

سارت الركبان بأبيات القصيدة الخالدة التي تُنسب لمالك بن فهم الأزدي، وتناقلتها الأجيال إلى أن وصلت إلى زماننا هذا، والناس لم تفتأ تستشهد بها بعد أن أُرسلت أبياتها أمثالاً:

فَيا عجباً لمن ربَّيت طفـــلاً

                      ألقمــــــه بأطــــــراف البَنـانِ

أُعلّمـــهُ الرِّمـــايــة كل يـوم

                     فلمَّا استدَّ ساعِدهُ رَماني

وكم علَّمْتــهُ نظم القـــوافي

                     فلمَّا قال قافيـــــــهُ هجـــاني

أُعلّمه الفُتــــــــــــــوَّة كل وقـــتٍ

                    فلمَّا طـرَّ شــــــاربُهُ جفـــــــاني

رمَى عَينــي بِسَـهم أشـــــقذيّ

                  حديدٍ شـــــفرتَاهُ لهذمَـــــــــانِ

 

صفحة متخصصة بالتراث والبحث في مفردات المكان

Email