أمس واليوم

جميرا الأثرية.. الخليج التجاري في العصر العباسي

أطلال تليدة أمام صرح حديث | تصوير: سالم خميس

ت + ت - الحجم الطبيعي

المرور أمام مجموعة تلال قد تبددت وتناثرت بفعل الزمن في منطقة جميرا الأنيقة والمستلقية بطولها على ضفاف الخليج العربي لهو أمر مثير للاهتمام، في أن تداهمك وأنت في هذا المكان العصري مرتفعات ومنخفضات تنقل رحلتك في وهلة من بناء معاصر وبريق مستحدَث إلى نزهة شيقة تُدخلك أطلالاً تليدة بمجرد أن تغير طريقك قليلاً وتمنح ظهرك للشاطئ نحو شارع الوصل، يظهر لك هذا الموقع الأثري ويشد انتباهك إليه، رغم الباب والسور الذي تم بناؤه لهذه التلال المطمورة والأعمدة البارزة، فما هذا الأثر الذي ينقل الانتباه إلى غير جهة؟ رحلة زمنية مختلفة في مكان يحاكي الإنسان القديم ومن خلال بقايا عصر عباسي إسلامي ذهبي.

 

اكتشافات الآثاريين
كان لفريق آثار من الجامعة الأميركية في بيروت الفضل حين أتى إلى دبي عام 1969م في اكتشاف هذا الموقع، إلا أن البحث توقف، ليتجدد البحث بعد مرور خمس سنوات على الاكتشاف، وهذه المرة من خلال فريق آثار عراقي عام 1974م، إذ مسح المكان من جديد، واستمر البحث فيه والتنقيب حتى تم استخراج حفريات مهمة من هذه الأرض الممتلئة. يتوقف الفريق ويمر الزمن ويتوقف العثور على ما لم نعثر عليه بعد ليتكوّن عامَ 1993م فريق آثار محلي، ليقوم باكتشاف مبانٍ أثرية وبقايا من مصنوعات يدوية عديدة تؤكد هوية جميرا الأثرية الإسلامية العباسية كما أسلفنا، ليتسنى لنا شرح تخطيط المكان وبشكل عام، حسب المكتشف والمستخرج، رغم ما يقال عن أنها ربما ما زالت بقية المدينة متوارية أسفل الأرض، وأسفل هذه التلال المتناثرة، وبأبعادها وجوانبها الشرقية والغربية والجنوبية، ومن خلال مبانيها العائدة إلى القرن العاشر الميلادي، وهي فترة كانت من الازدهار ما عكس بحبوحة العيش تجاريًا في المنطقة، ليقابل ذلك نمو اجتماعي ونهضة عمرانية، كما تبين لنا في هذه المساحة التي نتحدث عنها، وهي جميرا الأثرية الشاهدة على عصرها الذهبي والواقعة على بعد 12 كيلومترًا شمال غرب دبي ومن أمامها أكثر من 500 متر حتى الوصول إلى شاطئ البحر، و4 أمتار أعلى من مستوى سطح البحر.

الدولة العباسية
هذه المنطقة الأثرية الواقعة الآن بين شارع الوصل وشارع جميرا، ربما كانت قبل أكثر من عشرة قرون تطل مباشرة على البحر بمينائها التجاري الخليجي والوسيط بين بلاد الرافدين إلى موارد النحاس في عمان، هذا العنصر الفلزي القابل للعديد من الاستخدامات عن طريق الحرارة والنار، لاستعمالها في العديد من الصناعات، مرورًا على جنوب شمال الساحل الخليجي وانتهاءً إلى جنوب شرق آسيا من السند فالصين.

هذا المكان الأثري الذي دلت آثاره بأنه يعود في زمنه إلى عصر إسلامي شهير، وإمبراطورية إسلامية كانت شاسعة في أطرافها تمثلت في الخلافة العباسية، والتي سميت نسبة إلى الصحابي العباس بن عبد المطلب، وهو سيد من قريش وثاني من أسلم من أعمام النبي محمد ــ صلى الله عليه وسلم.

 

جميرا
جميرا الأثرية والواقعة على بحر الخليج العربي كانت من ضمن نطاق هذه الإمبراطورية، لتشهد على صباها وكهولتها رغم غياب هذا الأمر عن الذكر حتى عام 1969م واكتشاف هذا الأثر الثمين الذي توالى الفحص والتنقيب فيه عبر عقود، وإخراج ما بها من أوانٍ فخارية ونقود معدنية، وضعت كلها في متحف دبي المطل على الخور في منطقة الفهيدي، ومتحف دبي هو في الأصل قلعة الفهيدي التي بنيت عام 1799م لأغراض الحكم وحماية المدينة، والتي تحولت بعد ترميمها عام 1971م إلى متحف دبي.

كشفت آثار موقع جميرا الستار على زمنها العائد إلى ما بين القرن التاسع والحادي عشر الميلادي والعصور الإسلامية المتأخرة، هذه القرون التي كانت للدولة العباسية عنوانًا للاتساع والقوة لتصنع حضارتها، مما ساهم على عودة الانتعاش لسواحل الخليج العربي في تجارتها وإبحارها منذ عهودها التجارية الأقدم، وتقدم لنا هذه الآثار الدليل على منازل وسوق ومسجد وحياة تعود إلى قرون بدلالات ثبتت أنها من العصر العباسي والعصور الإسلامية المتأخرة.

 

الخليج التجاري
ولكون الخليج العربي تجارياً منذ آلاف السنين، استمرت التجارة في العصر العباسي من خلال موانئه التي تستلم بضائع القوافل البرية لتصل إلى موانئ الخليج، وكذلك السفن البحرية وما تحمل من بضائع قادمة من بلاد الرافدين وبالتحديد جنوب العراق، كالبصرة، لتعبر السفن حتى غرب الخليج وعمان والخروج من المضيق إلى الهند والصين.

وقبل الخوض في موضوع آثار جميرا، نلاحظ أن ساحل البحر في جميرا انحسر أمام تمدد اليابسة؛ فموقع الميناء المفترض أن يكون الآن أصبح بين جميرا ومنطقة الوصل، وقد حدث هذا قبل ألف عام تقريبًا، بالإضافة إلى منطقة ساروق الحديد التي تم اكتشافها، وهو مصنع للمشغولات الذهبية واليدوية تم اكتشاف آثارها التي تعود إلى ثلاثة آلاف عام، وهي منطقة صحراوية الآن بين طريق دبي ومدينة العين، وكذلك آثار مليحة في الشارقة التي بينت نوع صخورها الكلسية، وكل هذا يدل على مدى انحسار البحر أمام اليابسة.

جميرا الأثرية الإسلامية

جميرا الآن، هذه المنطقة الطولية الواقعة في جنوب غرب مدينة دبي ارتبطت بحضارة عمان وكانت جميرا الأثرية من ضمن الأراضي (الماجانية) وتاريخها القديم، وهذه الآثار تشهد اليوم على امتداد هذا التاريخ الطويل خاصة في تلك الفترة التي كانت ضمن نطاق الدولة العباسية الإسلامية.

 

ومهما كان غائبًا، فإن هذه الآثار وضّحت مدى ازدهار موقع جميرا، بالمكان الجاذب حوله وبموقعه الوسيط، ونكتشف من خلال هذه الآثار كيف بنيت جميرا القديمة من بيوت سكنية وسوق تجاري ومسجد، و«خان» لاستقبال النزلاء، ليبقى هذا الميناء مستمرًا في ازدهاره التجاري في فترة الدولة العباسية من عاصمتها بغداد، إلى معظم أجزائها.

 

النقوش والفنون
وجد فريق البحث الأثري في هذا الموقع الفريد الكثير من الفنون المعمارية السائدة والمنتشرة في العصر العباسي، وهي زخارف جصية هندسية ونباتية تعبر عن شرقية المكان، كانت تزين واجهات المباني وعلى بنية وهيكل الأقواس في واجهات المساكن ونوافذها وأبوابها وجدرانها، هذه الواجهات الفنية تمنحنا صورة المكان وأهميته واستقراره وثراء السكان، وعلى المستوى التجاري للمكان فالفنون دليل الأمان والرخاء.

الأبراج المكتشفة عديدة، وكانت تزين وتحمي الأبنية في جميرا، كما تم اكتشاف بعض الكتابات في المسجد ومبانٍ أخرى. هذه الشواهد تدل على أن المكان كان حيًا قبل ألف عام. وتخرج الأسئلة التي تفرض نفسها، مثل:

 هل هاجر سكان المكان بعد تدميره بحكم دخول الإمبراطورية العثمانية التي أخذت تتوسع حينها؟

هل ثمة أحداث عنيفة حدثت، آنذاك، في زمن انتهاء دولة ودخول دولة أخرى؟

لا نستطيع الإجابة عن تلك الأسئلة بتخمينات، ولا من خلال قراءات تاريخية عن المنطقة بأحداثها المتنوعة في تلك الفترة، وذلك بسبب غياب التدوين والتأريخ، ولكن ما زال البحث جاريًا والجهود قائمة ودأب الفحص والتنقيب لم يتوقف بعد، لعلنا نخرج بإجابات جديدة لمواصلة الكشف عن سبب اضمحلال هذا الازدهار في ذلك العصر.

* موقع أثري في جميرا يجذب الانتباه 

خان المسافرين في جميرا الأثرية
الخان (بتسكين النون) هو مكان يستريح فيه المسافر، أي الفندق الصغير، وقد كان هذا المسمى متداولاً في الدول الإسلامية، وهي كلمة دخيلة على العربية، وجاءت كلمت الخان بوصفه نُزُلاً في جميرا الأثرية، فمساحته حوالي 1000 متر مربع وشكله الهندسي مستطيل ويعد من أهم المباني لاستيعاب حركة المسافرين، وهو أكبر من البيوت التي حوله، والتي تتراوح مساحتها بين 100 إلى 120 مترًا مربعًا. بني الخان وسط مساحة كبيرة محاطة بالغرف، وبمدخلين أو بابين رئيسين؛ باب شرقي وباب غربي، بوصف الخان ضرورة في هذا المكان المنتعش والممتلئ بالتجار الغرباء والمسافرين، وفي زمن اقتصادي مزدهر الأسفار في الخليج العربي.

* خريطة تاريخية لامتداد رقعة الدولة العباسية

المسجد والسوق العباسي والمباني الأخرى
تتميز معظم المباني بالاستطالة والصغر، فالمبنى الأول في الأثر تبلغ مساحته حوالي 480 م، والجدران الخارجية تحتمي بوجود الأبراج الدائرية ونصف الدائرية المزخرفة، أما المبنى الثاني فيعد أثراً للسوق في العصر العباسي، وهو عبارة عن حوانيت صغيرة الحجم أي (دكاكين)، وتوجد أمام كل دكان مصطبة لعرض البضائع أو الجلوس عليها، إضافة إلى مخزن السوق، الذي بني كملحق له. أما المبنى الثالث فيكشف عن زيادة عدد السكان، والرابع يتميز بوجود مصاطب داخل الغرف الداخلية للمنزل، كما عثر فريق على مبنى مربع الشكل بمساحة 49 م، وهو مسجد يتكون من غرفتين تطلان على الجانب الغربي «القبلة»، ومحراب في جدار القبلة.

 

ما يسمى قصر الوالي أو الحاكم
البقايا المكتشفة لما يسمى بمقر الوالي أو الحاكم، ويتكون من وحدتين سكنيتين، ومن خلال أطلال الأعمدة والجدران نلاحظ أن لكل منزل مدخلاً أحادياً ومنعزلاً ومتبايناً عن الآخر، محاطين بساحتين كبيرتين شمالية وجنوبية، هذه الساحة أو هذا الفناء احتوى على مواقد النار ومرافق للخدمات وغرف للخدم وحمامات مزودة بمصاريف للمياه، هذه الحمامات مبنية في زوايا الساحتين بشكل متقابل، كما تمت زخرفة ونقش واجهات المداخل الرئيسية ومداخل الغرف الداخلية بهدف تزيين المبنى، لتخرج الزخارف الهندسية والنباتية الموروثة.

 

1969

في هذا العام بدأ فريق آثار من الجامعة الأميركية في بيروت بالتنقيب، ليكتشف موقع جميرا الأثري، الذي يعود إلى الفترة العباسية في أوج حضارتها والعصور الإسلامية المتأخرة.

 

1974

في هذا العام أكمل فريق آثار عراقي التنقيب، فقام بمسح المكان من جديد، واستمر البحث فيه حتى تم الكشف عن المزيد من الأبنية والمكتشفات الأثرية.

 

1993

في هذا العام أتى فريق آثار محلي، ليكمل التنقيب، ويقوم باكتشاف مبانٍ أثرية وبقايا من مصنوعات يدوية، مع نقوش وأشكال هندسية تحكي هوية جميرا الأثرية.

 

reem.alkamali@albyan.ae

صفحة متخصصة بعلوم التاريخ والتراث والفنون في الإمارات والعالم

Email