تجاوز مفهومه الزمني إلى قالب شعري كامل

الليل في القصيدة مفتاح الحنين والذكريات

ت + ت - الحجم الطبيعي

تطرح القصيدة الشعبية الإماراتية من مسارها التاريخي إلى اليوم، واحدة من العلاقات الجذرية بين موضوع القصيدة وحضور الزمان في نصها، إذ يختلف توظيف الشعراء لمفهوم الزمان في القصيدة باختلاف موضوع القصيدة، إلا أنهم يكادون يجتمعون على مزاج الليل والسهر وقدرته على فتح مناخات جديدة في النص الشعري.

ينكشف هذا الاشتغال على الليل وكل ما يتعلق به من مفهوم السهر، والأرق، والحلم، وجفاء النوم وغيرها، في نماذج عديدة من الشعر الشعبي المحلي، إذ توقف الشاعر الإماراتي عند الليل بوصفه مفتاحاً وجدانياً لبناء النص الشعري، فلم يعد الليل أو مزاج السهر زمناً في القصيدة بقدر ما صار منفذاً للحديث عن تقلبات العاشق، والمتعب، والمهموم، وبالتالي فرصة لاستدعاء الذكريات والشجون وغيرها.

يتنوع حضور الليل وما يرافقه من مفاهيم ذات دلالات واضحة في القصيدة الشعبية المحلية، فيظهر السهر ومزاج العتمة في القصيدة العاطفية وما يمكن أن يفتحه من احوال العشاق الساهرين، وكذلك يظهر في الرثاء، إذ يشكل باباً واسعاً على الحنين والفقد، وكل أشكال الخسارة، إضافة إلى مجمل العوالم المتعلقة بالحكايات والمرويات القديمة التي يستدعيها الليل والسهر.

عتبة النص

تحضر عناصر الليل والسهر في القصيدة الشعبية الإماراتية، بوصفها عتبة النص، والبيت الأول الذي يرسم مسار القصيدة بأكملها، إذ تتجاوز تلك العناصر حضورها المرتبط بالزمان، لتصبح هيكلاً وقالباً يبني فيه الشاعر قصيدته، ويستند إليه في تكوين صوره الشعرية، ومختلف الحالات الجمالية الحاضرة في قصيدته.

يمكن قراءة كل ذلك بالوقوف عند نماذج واضحة من الشعر الشعبي المحلي، فنجد الشاعر سالم الجمري يوظف عناصر الليل لرثاء أحد أصدقائه، فيكتب:

البارحه ما ذال جفني يا علي

                  من زود لا هوب يشب ويشعلني

بقصا الظمير وطول ليلي ما فخت

                        أيلين عانيت الصباح المقبلي

وأنا على نار الوقايد كنني

                           لا تنطفي عني ولا تتبدلي

من هابيس بقصا الظمير وليمت

                      بين اللظا لم بلفواد اتشاغلي

منها صبي العين هلت عبرته

                  وصف الصميل أو كلفياث الوابلي

حتا نحل حالي وكاتم علتي

                     واللي يراحالي يظن أني خلي

عنصر زمني

تتجلى قدرة زمن الليل والسهر في تحقيق الحالة الشعرية التي أراد الشاعر الوصول بها في رثاء صديقه، فالعالم البصري ومزاج السهر مرتبط في أحد تصورات داخل المخيال الإنساني، بأشكال الهم، والفقد، والخسارة، والتعب، وهذا ما يعد مفتاحاً لقراءة الرثاء، وتوصيل أعمق حالات الفقد في النص الشعري.

الاشتغال على غياب النوم، باعتباره المقابل الموضوع للتعب والكدر، هو الحالة التي يدخل فيها الشاعر لرثاء صديقة، مستنداً إلى هذه الحالة، لرسم تصوراته وحجم خسارته، فالعنصر الزمني في النص هو اللبنة الأساسية التي يقوم عليها معمار القصيدة، وغيابها هو هدم للبناء الشعري بأكمله.

حنين وتذكر

الأمر ذاته يظهر في اشتغال آخر داخل القصيدة الشعبية المحلية، فيتجاوز الليل والسهر حالة الحزن والتعب، ليصبح مفتاحاً على الحنين، واستحضار الذكريات، إذ يكتب الشاعر محمد بن علي الكندي قصيدة يصف فيها أيام الغوص، مستنداً إلى حالة السهر وما يثيره الليل من شجون لينتقل بالقارئ إلى زمن مضى، يفتقده الشاعر ويحن إليه، فيقول:

البارحه ما باتي

             جفني عاف المنام

واتنهد بحراتي

                كني مريض أعوام

سر مني بالزتلتييا مندوب السلام

        سلم عدد ما ياتيشرتا الصبا عزام

مزاج العاشق

مقابل هذا الحضور القاسي لفكرة السهر والليل، يتجلى الزمن في قصائد الغزل بصورة واضحة، فلا يكاد شاعر شعبي كتب في الغزل لم يرسم صورة شعرية للسهر، وأجواء الليل، والأرق، فالليل ظل تاريخاً مرتبطاً بمزاج العاشق، لما يثيره من عواطف، ويستدعيه من حنين، فيكتب الشاعر مبارك بن حمد العقيلي في قصيدة عزلية:

جفا النوم جفن الصب ما عاد يعتادي

                           ومن كان مثلي كيف يلتذ برقادي

غريم الحشا والحب في مهجتي نشا

                            ودمعي وشا بالي أكنيت بفؤادي

عبارات عبراتي اعتبار وعبرتي

                        بما بر سبيل للتوى في الهوى هادي

أنا بات مبتوت الرجا من أحبتي

                     وغيري بهم بالوصلي حظا والأسعادي

أردد زفيري في ضميري ولوعتي

                     وجمر الجوى والوجد في القلب وقادي

مناخ القصيدة

يغيب مفهوم السهر والليل في القصيدة عن مفهومه التقليدي ليصبح حالة غزلية شعرية، يكشف عواطف الشاعر، ويرسم معالم الحب في النص الشعري، فيقول الشاعر كيف لعاشق مثلي أن ينام ويعرف الراحة وهو مصاب بكل هذا الحب، «غريم الحشا والحب في مهجتي نشا/‏ ودمعي وشا بالي أكنيت بفؤادي».

ليس ذلك وحسب ما يقدمه زمن الليل في النص الشعري الغزلي، إذ يستدعي لغة الشاعر وقاموسه المرتبط بالليل والسهر، فلا عجب أن تحضر مفردات مثل العتمة، والنجوم، والسكون، والسهر، والجفا، والوحدة، وغيرها من المفاهيم المرتبطة بمزاج الليل، باعتباره مناخ القصيدة التي يرتسم في متنها الغزل والعشق ومختلف تجليات العشق وتقلبات حالته.

رفيق الشعراء

لا يظهر هذا مفارقاً لما كرسته القصيدة العربية الفصيحة تاريخياً، فالليل ظل رفيق الشعراء، وظل هو المفتاح الذي يلجؤون إليه في كشف عوالم نصوصهم وفتح أبواب وجدانياتهم وحنينهم ووحشتهم، إلا أن الشاعر الشعبي المحلي يتجاوز ذلك في بعض الأحيان ليحول الليل إلى مبرر لتعظيم موضوع قصيدته، معتبراً أن الإصابة بالأرق والسهر، لا تقتصر على الحنين والحب والفقد وغيرها، وإنما أيضاً تعظيم الهم وكدر الحياة، فيكتب الشاعر عتيق الهاملي شاكياً همه:

فزيت غافي

لي في نومه دهم

صاب القلب اختلافي

امر ما ينكتم

سرت أنشد العرافي

عن موفين الذمم

قال الجناب الوافي

هو راس المحتشم

قلت اوصول الخطافي

وملاقاة النسم

يبري حشيدا رضافي

وهايوس مرتضم

وجدانيات

الليل ومجمل العناصر المرتبطة به من سهر، وأحلام، ووحدة، شكلا عالماً شعرياً واضحاً في التجربة الشعرية الشعبية المحلية، فتعددت قراءة مفهوم الليل داخل النص الشعري ليتجاوز مفهومه كزمن، ويصبح مزاجاً كاملاً، يفرض قاموسه اللغوي، ويؤسس مناخ القصيدة بأكملها، وفي المقابل يفتح الباب أمام سلسلة من المعالم الوجدانية الراسخة في الشعر، مثل الحب، والحنين، والفقد، والهم، وغيرها من المعالم.

Email