السياسة والثقافة فلسطينياً

ت + ت - الحجم الطبيعي

السياسة والثقافة طرفا معادلة جدلية تتفاعل على أرضية «وحدة وصراع الأضداد» وتوجّه القضايا على مساري القوى السياسية والمجتمعية. وإذ تبدو العلاقة متداخلة ومتشابكة بين طرفي المعادلة تاريخياً، ربما يكون التخصيص أكثر جدوى في هذا السياق، وفي القضية الفلسطينية نموذج أشد سطوعاً للعلاقة بين السياسي والثقافي.

في البداية، ثمّة فرضية شائعة على نطاق ما، تقول إن الثقافي خضع للسياسي في الحالة الفلسطينية وأصحاب هذه الفرضية يدينون هذا الحال ويرونه خطيراً، وهناك من لا يرفض الفرضية، لكنّه لا يرى فيها ضيراً، وهؤلاء من المتبنين للسياسة الرسمية المسماة «المشروع الوطني» والمتمثّلة بمسار التسوية المتوّجة باتفاقات أوسلو وملحقاتها وتبعاتها.

ولننزل من التحليق النظري إلى أرض التجربة، نورد بعض المحاور الموضوعة في مفرمة الجدل. في سياق القضية الفلسطينية أفرز الواقع المتراجع تراجعات على مستوى الثقافة وربما الوجدان. الآن بات التعامل مع الفلسطينيين ككتل أمراً واقعاً، حيث لدينا فلسطينيو الضفة وغزة، فلسطينيو القدس، فلسطينيو الـ48 وفلسطينيو الشتات، وبين هذه الكتل مسمّيات أشد سمّية كـ«عرب إسرائيل»..

كما أن بعض الكتل المذكورة باتت أخيراً تتعرّض للتشظّي، إذ إن الانقسام الفلسطيني جعل من الضفة وغزة كتلتين، كما أن الفلسطينيين الصامدين في المناطق المحتلة عام 1948 تعرّضوا قسراً للتقسيم السياسي بين مستسلم لمؤامرة الاندماج الكامل في الكيان ومؤسساته، وبين متمسّك بالهوية الفلسطينية العربية.

وثمّة تساؤل يسلّط الضوء الأوضح على المعادلة: إذا كان السياسي الفلسطيني أوجد لنفسه مبرراً «واقعياً» لتوقيع اتفاقات سياسية تختزل فلسطين إلى ستة عشر بالمئة من مساحتها، واعتبار ذلك «حل الدولتين»، فما الذي يجبر المثقف والفلسطيني العادي أن يخضع لهذا «الحل»؟

إذا كانت السياسة في أحد تعريفاتها «فن الممكن» من الحقوق، فإن الثقافة هي الحق كله. ابن حيفا مثلاً ليس مضطراً أن يخضع لاتفاقات سياسية ويخبر أبناءه بأنهم من ميكرونيزيا وليسوا من حيفاً، فيما يصبح ليبرمان القادم من روسيا قبل بضع سنوات «ابناً شرعياً» لأرض لا تشم فيه سوى رائحة غريبة.

سيبقى الجدل قائماً بالتأكيد لكن موازين القوى فيه ستتغيّر بقوة دفع الحقائق، وبالنظر لخطورة ربط الثقافة والوجدان بقيود السياسة.

Email