«جميلة» وسؤال السنين: متى نصالح التاريخ؟!

ت + ت - الحجم الطبيعي

بعد أن جاوزت الثمانين، وبعد أكثر من نصف قرن على زيارتها الأولى لمصر، تعود وفي ذهنها أنها أصبحت بعيدة عن الذاكرة ـ فإذا بها تجد نفسها وسط طوفان من مشاعر الحب والتقدير، وإذا بوجودها على ضفاف النيل يفتح صندوق الذكريات عن سنوات مجد عاشتها الأمة من المحيط إلى الخليج، وعن وعود تحققت وأخرى لم تتحقق.. ومع الذكريات تثور الأسئلة التي تنتظر الإجابة منذ سنين!!

إنها جميلة بوحيرد، أيقونة النضال من أجل الحرية، ابنة الجزائر التي انضمت صبية إلى صفوف ثورة شعبنا العظيم في الجزائر، والتي اعتقلت بعد سنوات قليلة لتدخل السجن عام 1957 وليحكم عليها بالإعدام، وليجد الاحتلال الفرنسي نفسه أمام موجة احتجاج هائلة تتجاوز العالم العربي إلى العالم كله، ولتبقى جميلة مع آلاف المناضلات الجزائريات في سجون الاحتلال حتى تنتصر الثورة ويعلن الاستقلال وتفتح الزنازين، ويخرج الثوار ليبدأوا المرحلة الأصعب في بناء الجزائر بأيدي أبنائها، ولتعوض سنوات الاحتلال الطويلة وتستعيد هويتها ومكانتها وثرواتها المنهوبة واستقلالها الذي دفعت من أجله دماء مليون شهيد.

لم تكن جميلة بوحيرد إلا واحدة من جيش من المناضلات في صفوف ثورة الجزائر العظيمة، لكن الأقدار شاءت أن تتحول الصبية الصغيرة إلى «أيقونة» للثورة ورمز لألوف المناضلات اللاتي كتبن صفحات من المجد في صفوف ثورة المليون شهيد.

حتى الآن يبدو الأمر مذهلاً، لم تكن هناك يومها وسائل اتصال حديثة، وكان الإعلام محدوداً في مواجهة أدوات إعلامية هائلة يملكها الاحتلال والقوى التي تناصره.

كان إعلام الثورة يحاول جاهداً أن يصل صوته للشعب في الداخل وللمناصرين في الخارج، وكانت «صوت العرب» تؤدي دورها الخالد من القاهرة وتواجه بأقل الإمكانيات كل دعايات المستعمرين وإذاعاتهم المنتشرة في المنطقة وحولها، وكانت الصحافة العربية المنطلقة أساساً من القاهرة تمنع من الدخول إلى معظم أقطار العالم العربي الواقعة تحت الاحتلال أو المرتبطين به.

ومع هذا كانت الشعوب العربية كلها تحتضن ثورة الجزائر وباقي حركات التحرر في الوطن العربي، وكانت حرب 1956 حاسمة في هذا الصدد، دخلت فرنسا يومها الحرب من أجل استعادة قناة السويس ومن أجل معاقبة مصر على دورها في دعم ثورة الجزائر التي كانت فرنسا قد ضمتها بالفعل إلى الدولة الفرنسية. ودخلت بريطانيا الحرب لتعود إلى قاعدتها العسكرية في قناة السويس ولتحمي احتلالها أو نفوذها شرق السويس.

وكانت هزيمة العدوان إيذاناً بعصر جديد تسقط فيه آخر الإمبراطوريات الاستعمارية القديمة، وتبزغ شمس الحرية على الوطن العربي من الخليج إلى المحيط.

كان لافتاً هنا أن يتم اختطاف الطائرة التي كانت تحمل زعماء جبهة التحرير بقيادة «بن بيللا» قبل أسبوع واحد من بدء العدوان الثلاثي على مصر، وكان طبيعياً أن تشتعل الثورة وأن يواصل جيش التحرير بقيادة بومدين القتال ضد الاستعمار بعد هزيمة العدوان الثلاثي على مصر. وكان ضرورياً أن يشتد نضال الشعوب العربية في كل الأقطار من أجل الحرية والاستقلال.

في هذا المناخ وقعت جميلة بوحيرد في أسر جنود الاحتلال في عام 1957، مناضلة مثل آلاف الجزائريات المناضلات في صفوف جبهة التحرير.

لكن الوعي الشعبي اختارها لتكون رمزاً لكل هؤلاء المناضلات.. ولتتحول إلى أنشودة لم يتأخر شاعر عربي كبير في المشاركة فيها، أتذكر في مصر قصائد صلاح عبد الصبور وحجازي وكامل الشناوي.

وغيرهم ثم هذه التحفة في المسرح الشعري التي كتبها الرائع عبد الرحمن الشرقاوي «مأساة جميلة» وبعدها الفيلم الذي لا ينسى ليوسف شاهين والذي أدت فيه الفنانة ماجدة دور جميلة، وأتذكر وسط عشرات الأغنيات والأناشيد عن ثورة الجزائر كيف بدأت المطربة وردة رحلتها إلى قلوب عشاق الغناء العربي بأنشودة وطنية أطلقتها من الشام، بعد أن تم ترحيل والدها من باريس بسبب علاقته بالثوار الجزائريين، فذهب مع العائلة إلى بيروت حيث أقام، ومن إذاعة دمشق جاء صوت وردة ينشد «كلنا جميلة» لتأتي بعد ذلك إلى القاهرة وتشارك في «الوطن الأكبر» بمقطع عن الجزائر التي غنى لها الجميع.

ما زلت أذكر استقبال القاهرة للزعماء الجزائريين بعد الإفراج عنهم عام 1962 ومازال في الذاكرة كيف استقبلت الجزائر جمال عبد الناصر في أول زيارة له بعد الاستقلال، كانت أيام الوعد بالغد الأجمل في كل مكان على الأرض العربية، وفي ظلها جاءت جميلة بوحيرد مع زميلتها المناضلة زهرة بوظريف لزيارة القاهرة، حيث استقبلهما عبد الناصر كممثلتين لكل مجاهدات الجزائر.

تقلبت الأيام بعد ذلك، ولكن بقيت الجزائر الشقيقة مخلصة لما ضحت من أجله بأرواح أغلى أبنائها، ولعل دور الراحل بومدين في دعم حرب أكتوبر بالمال والسلاح وقبل ذلك بالمقاتلين كان أروع تعبير عن الجزائر التي استعادت هويتها مع انتصار الثورة واستقلال الدولة.

سيل من ذكريات يتدفق والصبية المجاهدة في صفوف الثورة تقف على ضفاف النيل وقد تجاوزت الثمانين، فتجد أجيالاً لم تعاصر الثورة لكنها تعرف التاريخ ولم تفقد الذاكرة القومية، تحتفي بالجزائر وبالمرأة العربية المناضلة، وتفتح مع جميلة بوحيرد صندوق الذكريات وتطرح أسئلة الحاضر والمستقبل.

التاريخ لا يرحم، ولا ينحاز إلا للأقوياء، والأقوياء هم من يتعلمون الدرس، ويصححون الخطأ وينتصرون للعقل ويؤمنون بالمستقبل. كنا التعبير الصادق عن حركة التاريخ حين انتصرنا.. فما الذي عطلنا بعد ذلك؟ وكيف استطاعت خفافيش الظلام أن تجد مكاناً على أرضنا، وأن تنشر فكرها المتخلف، وأن تقود الأمة إلى وضع استنزفت فيه قوانا على مدى سنين، وتحالفت فيه مع الأعداء لتدمر أوطاناً بأكملها، ولتظل تهددنا بفكرها المتخلف وبسعيها لأن تغرقنا في جهالات العصور الوسطى؟

تغيرت الظروف والأحوال، لكننا في قلب معركة مصير مثل تلك التي خضناها في منتصف القرن الماضي، وليس أمامنا إلا أن ننتصر لأنفسنا، فينتصر لنا التاريخ.. أليس هذا ما فعلناه من قبل؟!

Email