حديث الصفقة

ت + ت - الحجم الطبيعي

منذ تولي دونالد ترامب رئاسة الولايات المتحدة في يناير الماضي، أجرت الدبلوماسية الأميركية 17 جولة لقاءات مع مختلف الأطراف المعنيين بإقرار السلام في «فلسطين التاريخية».. وقد حظي الجانبان الفلسطيني والإسرائيلي بالنصيب الأوفر من الوقت والجهد اللذين بذلا في هذا المضمار المكوكي.

الانشغال الأميركي المكثف بشؤون التسوية الفلسطينية وشجونها؛ الذي خصص له ترامب فريقاً من الأثيرين لديه، ومنهم صهره جارد كوشنر ومبعوثه جيسون جرينبلات وسفيره لدى إسرائيل دافيد فريدمان، يبدو مبرراً ومفهوماً بحكم دافعين بارزين يتعلق أولهما بما بات معلوماً بالضرورة عن متابعة واشنطن لمصالحها في منطقة الصراع ونفوذها واسع النطاق على مختلف الأطراف وقبولهم جميعاً بمداخلاتها أو وساطتها. والثاني هو الاعتقاد الشخصي لسيد البيت الأبيض بأنه قادر علي تحقيق ما لم يستطعه أسلافه. ومن تجليات هذا المحدد الأخير إطلاق صفة الصفقة الكبرى أو صفقة القرن على الهدف المأمول من الحراك الأميركي. وهذا مفهوم مستلهم من عالم المال والأعمال، الذي وفد منه ترامب إلى عالم السياسة.

لكن غير المفهوم وغير المنطقي أن يتم تعليل جولات مساعدي ترامب ومستشاريه؛ التي ذرعت عواصم العرب والعجم المهمومة بعملية التسوية، فضلاً عن حضوره بنفسه إلى قلب منطقة الصراع في فلسطين وبعض محيطها الإقليمي، بمجرد جمع المعلومات. ترى ما المعلومات التي ما زالت خافية عن عراب الصراع والتسوية لأكثر من أربعين عاماً؟ لا يمكن لمتابع منصف أن يقبل بمثل هذه الذريعة أو يهضمها، فقصة إدارة ترامب مع التسوية الفلسطينية لا تبدأ من نقطة الصفر. التجريب وجس النبض والاستطلاع، وإطلاق الأفكار الأولية وتلمس ردود أفعالها، وما شابه ذلك من تحركات، تليق بالوسطاء المحدثين والأطراف الثالثة المستجدة، ولا تناسب أبداً قوة عظمى تعمل من خلال مؤسسات راسخة ومتغلغلة في القضية موضع النظر لعقود ممتدة.

الأنكى من هذا هو إنكار المسؤولين الأميركيين أن لديهم خطة للتسوية أو «صفقة» يطبخونها علي مهل، أو أنهم سيضعون جدولاً زمنياً للوفاء بمفردات هذه الصفقة، أو أنهم سوف يفرضون خيارات على المتصارعين. هم يقولون وبراءة الوسطاء في عيونهم إنهم معنيون فقط بتسهيل وصول الفلسطينيين والإسرائيليين إلى طاولات التفاوض. ومؤدى ذلك أن القطب الأميركي بجلالة قدره وسلطانه، يبذل كل هذا الجهد المضني، لتحقيق هدف إجرائي شكلي مقطوع الصلة بمضمون المفاوضات، ولا يعلم شيئاً عن الشطآن التي سوف يرسو عليها المتفاوضون.

لا ندري ما إن كانت واشنطن تعلم أن هذا الطرح لا يمكن أن يمر على عاقل، وأن دورها أكبر وأوقع بكثير من محض توفيق رأسين في غرف التفاوض؛ وأن مهمة كهذه يمكن أن تحدث برعاية فواعل دوليين أقل منها شأناً في الرحاب الدولية، وأقل انغماساً في السيرة الذاتية للصراع الصهيوني العربي وقضية فلسطين.

إلى ذلك، تتناقض دعوى المسكنة والحياد الأميركي وشكلانية دور واشنطن وطهريته، مع حديث ترامب وبطانته عن صفقة التسوية النهائية، فما دامت دبلوماسية إدارة ترامب معنية فقط بحشر المفاوضين وجهاً لوجه، فأين الصفقة الكبرى أو الصغرى في هكذا مهمة؟

تقديرنا أن الصراع في فلسطين وجوارها لا يقبل مزيداً من المراوغات والمناورات. كل التحركات الأميركية، على المستويات الدولية والإقليمية، الموصولة بالمعضلة الفلسطينية، توحي بأن هناك بالفعل خطة وصفقة في طور التبلور والاكتمال، ما لم يكونا قد اكتملا بالفعل وتبلورا. وكل ما في الأمر الآن هو البحث عن كيفية تسويق هذه «البضاعة» وبيعها وتجميل محتواها وتأليف القلوب من حولها. وليس من المبالغة أن نذهب إلى احتمال أن تكون حقوق الطرف الفلسطيني موضوعاً للغبن والهدر؛ ولا سيما في قضايا القدس واللاجئين وحدود الاستقلال بالمعنيين الجغرافي والسياسي.

نود القول إن هناك إثماً يحيك في صدر العراب الأميركي ويكره أن يطلع عليه الخلق. ويدعو للأسى وتوقع الأسوأ أن إدارة ترامب تبدو عاكفة على إثمها، وأنها اليوم وإلى أن تبوح بصفقتها على الملأ، في مستهل العام المقبل كما يقال، بصدد تلمس أكثر السبل فاعلية في لي عنق السياسة الفلسطينية، كي تقبل بما لا يمكن القبول به.

Email