قوة الرئيس في واشنطن

ت + ت - الحجم الطبيعي

الوقائع التي شهدتها واشنطن خلال الأسبوع الماضي تؤكد جانباً مهماً من المشهد السياسي الأميركي، رغم أن الكثيرين في الصحافة العالمية بل والأميركية يصفون الرئيس الأميركي بأنه أقوى رجل في العالم.

إلا أن تلك المقولة، ليست دقيقة تماماً، إلا إذا كانت المؤسسات السياسية الأميركية في صفّه، والواقع الذي تعيشه الولايات المتحدة اليوم نموذج ممتاز للتأكيد على هذا المعنى.

منذ تولي دونالد ترامب الرئاسة، على أكتاف كتلة مهمة هي خليط من اليمين الديني وقطاعات البيض التي لم تقبل أبداً بالتحولات الديموغرافية والثقافية التي يشهدها المجتمع الأميركي، باتت هناك مخاوف لدى قطاعات مهمة في النخبة والمجتمع الأميركيين من أن يؤدي وصوله لمنصب الرئيس إلى تغيير الطابع الديموقراطي للدولة.

تكرست تلك المخاوف مع لجوء ترامب المستمر للقرارات التنفيذية لتنفيذ تعهداته الانتخابية بديلاً عن التشريع الذي يتطلب موافقة الكونغرس، هذا فضلاً عن ميل الرئيس ترامب لاختيار رموز إدارته وفقاً لمعيار الولاء الشخصي له، بما في ذلك الوظائف التي منحها لأفراد من عائلته والمقربين من أصدقائه ومن عملوا معه في ما سبق.

لا يقل عن ذلك أهمية الطابع الفريد لشخصية ترامب التي تحمل سمات تميل منذ أن كان رجل أعمال، لاتخاذ قراراته بشكل منفرد، فضلاً عن ميله للالتفاف حول الإعلام عبر استخدام حسابه على تويتر للتواصل المباشر مع الناس.

اعتبر الكثيرون أن الحزب الديمقراطي المعارض، ومسؤوليه المنتخبين في الكونغرس وعلى مستوى الولايات، الذين تقع عليهم المسؤولية الرئيسية لمقاومة أداء الرئيس صار منقسماً على ذاته على نحو يزيد من تلك المخاوف ويعطي الرئيس وحزبه فرصة ذهبية لإحداث التغييرات الكبرى التي يريدونها ما قد يغير بالفعل من طبيعة النظام السياسي نفسه.

الذي حدث أن المؤسسات السياسية الأميركية صارت هي المقاوم الأول لميول ترامب وأدائه، فرغم أن حزب الرئيس هو نفسه الذي يسيطر على الأغلبية في المؤسسة التشريعية الأميركية، التي بدت خارج لعبة مقاومة أداء الرئيس، إلا أن الجمهوريين رفضوا تمويل الجدار على الحدود مع المكسيك، وهو الجدار الذي تعهد به ترامب في حملته.

كان عدد كبير من الجمهوريين مسؤولاً أيضاً عن الفشل التشريعي الأول للرئيس حينما رفضوا في مارس المشروع الأول لقانون الرعاية الصحية، بل أكثر من ذلك، فإن عدداً لا بأس به من الجمهوريين في المجلسين اضطروا اضطراراً كما سيأتي لاحقاً لاتخاذ مواقف مستقلة في الآونة الأخيرة بعدما لعبت مؤسسات سياسية أخرى أدواراً مهمة.

وقد كانت البداية مع المؤسسة القضائية، فالقضاء الأميركي هو الذي أوقف قرارات الرئيس التنفيذية وعطل عدداً منها.

كان على رأس تلك القرارات ذلك الذي قضى بحظر دخول مواطني سبع دول ذات أغلبية مسلمة، وهو القرار الذي تم إلغاؤه فأعاد البيت الأبيض كتابة غيره ليتم تعطيله من جديد.

معيار الولاء الذي ينتهجه ترامب لاختيار مرؤوسيه تعرض هو الآخر لاختبار المؤسسات الأميركية، فتعيين مايكل فلين، مستشاراً للأمن القومي، وفق معيار الولاء لترامب شخصياً لم يمنع المؤسسات والأجهزة الأميركية المعنية من أن تحقق في تجاوزات الرجل، سواء ما يتعلق باتصالاته بروسيا أو قيامه بالدفاع عن مصالح تركيا، بل أكثر من ذلك.

، فإن وصول ترامب للرئاسة لم يمنع تلك الأجهزة من الاستمرار في إجراء تحقيقاتها بخصوص ما إذا كانت قد جرت اتصالات بين حملته الانتخابية وقوى أجنبية.

رغم أن البيت الأبيض كان قد أعلن أن إطاحة ترامب بجيمس كومي، مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي، قد جاء بناء على توصية من نائب وزير العدل، إلا أن الأخير قال لأعضاء الكونغرس إنه كان يعلم قبل كتابة تلك التوصية بأن القرار كان قد اتخذ فعلاً بإقالة كومي، بل إن نائب وزير العدل هو نفسه الذي فاجأ الجميع .

وأعلن عن تعيين محقق مستقل ليتولى مهمة التحقيق في شأن النفوذ الأجنبي، وهى خطوة معناها أن هناك بالفعل شبهة انتهاك للقانون أو الدستور.

بمجرد اتخاذ تلك الخطوة ذات التداعيات الجسيمة، بدأ الجمهوريون في المؤسسة التشريعية أكثر استقلالية عن الرئيس، كما أظهرت تصريحاتهم فور لقائهم بنائب وزير العدل الذي أطلعهم، في غرفة مغلقة، على ما دفعه لاتخاذ ذلك القرار الخطر.

قوة الديمقراطية ليست في الانتخابات وإنما في المؤسسات، فرغم كل المثالب التي يعاني منها النظام الانتخابي الأميركي التي تجعله يجانب الطابع الديمقراطي في كثير من الأحيان، إلا أن الجوهر الحقيقي للديمقراطية الأميركية هو المؤسسات السياسية التي أثبتت المرة بعد الأخرى أنها الأساس في الحفاظ على طبيعة النظام السياسي.

الحالة الأميركية بذلك تعد نموذجاً ممتازاً للتأكيد على أن الديمقراطية ليست عبارة عن انتخابات فقط وإنما هناك ما هو أكثر أهمية بكثير.

 

Email