غموض سياسات الولايات المتحدة

ت + ت - الحجم الطبيعي

مؤشرات كثيرة تدل على أن أحداً لا يعلم حتى الآن وجهة السياسة الخارجية الأميركية، وعلى رأس تلك المؤشرات التناقض في مواقف الرئيس الأميركي، ومن أهمها التناقض بين مواقف الرئيس ومواقف فريقه لإدارة السياسة الخارجية بل والخلط الواضح بين الاستجابة لجمهور ترامب وصنع السياسة الداخلية والخارجية.

أما التناقض في مواقف الرئيس، فلعل الأكثر دلالة عليها هو العلاقة بكل من الصين واليابان.

فالأسبوع الماضي شهد مواقف للرئيس، تتناقض مع موقفه، كمرشح، بل وكرئيس منتخب، أي في الفترة الانتقالية، فاليابان ظلت في الحملة الانتخابية على رأس «الحلفاء» الذين قال عنهم ترامب إنهم لا يدفعون تكاليف حماية الولايات المتحدة لهم، وهى أيضاً من بين الدول التي تحدث عنها باعتبارها تستغل الولايات المتحدة في صورة العجز بالميزان التجاري.

أما الصين، فهي التي حظيت طوال الحملة بالهجوم الأكثر شراسة، وكانت بعد انتخاب ترامب مباشرة، أولى الدول التي تلقت صفعة قوية عبر استقباله لمحادثة هاتفية من رئيسة وزراء تايوان، في تحول عن السياسة الأميركية الرسمية التي طالما اعترفت، على الأقل علناً، بما يطلق عليه سياسة «الصين الواحدة».

وترامب أكد في حوار صحافي مع وول ستريت جورنال بعد توليه أنه لن يعترف «بالصين الواحدة ما لم تحدث الصين تقدماً بخصوص سعر عملتها وسياساتها التجارية».

لكن أولى زيارات وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس الخارجية كانت لآسيا، التي أكد خلالها لليابان وكوريا الجنوبية التزام الولايات المتحدة بحماية أمنهما، ثم تراجع ترامب عن كل ما قاله تجاه اليابان والصين في الحملة الانتخابية والمرحلة الانتقالية، وحين وصل رئيس وزراء اليابان شينزو آبي للولايات المتحدة، استقبله ترامب استقبالاً حاراً.

وأصدر البيت الأبيض بياناً أعلن فيه التزام الولايات المتحدة بالدفاع عن اليابان في حالة استيلاء الصين على جزر سينكوكو المتنازع عليها مع الصين، ثم أعلن من جديد دعمه الكامل لأمن اليابان بعد أن أطلقت كوريا الشمالية صاروخها البالستي.

وقبل استقبال شينزو آبي بيوم واحد، حرص البيت الأبيض على الإعلان رسمياً عن التزام الولايات المتحدة بسياسة الصين الواحدة، تمهيداً للمحادثة الهاتفية التي أجريت بين ترامب والرئيس الصيني، والتي وصفها الأول بنفسه بأنها كانت ودية للغاية.

لكن لا الاستقبال الحار، ولا حتى المحادثة الودية للغاية تعني أن العلاقات الأميركية بالبلدين قد تم حسمها، فستكشف الأيام القليلة المقبلة عن نتائج محادثات منتجع فلوريدا بين ترامب وشينزو آبي، وفي الوقت نفسه، قد يجد ترامب أن الصين صار عليها أن تقدم مقابل التزامه العلني بسياسة الصين الواحدة.

أما التناقض بين مواقف الرئيس ومواقف فريقه للسياسة الخارجية فلعلها أكثر وضوحاً في حالة أوروبا، فوزيرا الدفاع والخارجية هدفا طوال زيارتهما لأوروبا لتطمين حلفاء أميركا في القارة الذين يشعرون بقلق بالغ إزاء الإشارات المختلفة التي تصلهم من تصريحات ترامب حول سياسة أميركا تجاه الناتو والاتحاد الأوروبي وروسيا،.

وخطاب ماتيس بل وتيلرسون بشأن روسيا كان مختلفاً عن خطاب ترامب نفسه، فوزير الدفاع الأميركي قال مثلاً إنه لا يعتقد أن بإمكان بلاده التعاون عسكرياً في الوقت الراهن مع الروس.

ورغم أن ماتيس كان قد أشار في زيارته لأوروبا إلى أهمية أن ترفع دول القارة مساهماتها المالية الموجهة للدفاع المشترك، إلا أن ذلك المعنى لم يكن جوهر حواراته في أوروبا التي فوجئت قبل انتهاء مؤتمر ميونيخ بمايك بنس، نائب الرئيس، ينسخ تطمينات ماتيس بخطابه الذي ركز فيه بكل قوة على مسألة دفع الحلفاء لتكلفة الدفاع عنهم.

مؤكداً أن أربعة فقط من بين دول أوروبا هي التي تدفع ما يكفي في هذا الصدد، ومشيراً للمادة الثالثة من ميثاق حلف الناتو، فيما بدا وكأنه تهديد ضمني معناه أن الولايات المتحدة لن تكون ملتزمة بالدفاع عن دول القارة ما لم تدفع تلك التكلفة.

والأوروبيون استمعوا أيضاً لأحد أعضاء حزب الرئيس البارزين والذين لهم باع في السياسة الخارجية والدفاع وهو السيناتور جون ماكين الذي قال في المؤتمر نفسه إن استقالة فلين كانت أحد الأدلة على أن «الإدارة في حالة فوضى».

وبالفعل توجد اختلافات في الرؤى داخل البيت الأبيض وبينه وبين رموز في الإدارة، لكن تلك الاختلافات معتادة في كل إدارة حتى أنها تكاد تكون القاعدة لا الاستثناء، إلا أن الجديد في إدارة ترامب هو أن هناك خلطاً واضحاً في الأدوار داخل البيت الأبيض، بين المسؤولين عن صنع السياسة وبين الذين يفترض أن يقتصر عملهم على الجوانب السياسية، بمعنى العلاقة بالرأي العام الأميركي والقوى المختلفة الفاعلة فيه.

والخلط بين الاثنين معناه أن تتحول السياسة الخارجية لمجرد أداة لتعزيز مواقف ترامب مع الجمهور الذي انتخبه، لا حتى مع مجمل المواطنين الأميركيين، وهو الأمر الذي يجعل الصراعات بخصوص السياسة الخارجية مفتوحة على كل الاحتمالات.

 

Email