مستقبل أحفادنا الاقتصادي

ت + ت - الحجم الطبيعي

الاقتصادي الإنجليزي الشهير جون مينارد كنيز (J.M. keynes)، والذي لا يتردد كثيرون في اعتباره أعظم اقتصاديي القرن العشرين، له مقال شهير كتبه سنة 1930 بعنوان (مستقبل أحفادنا الاقتصادي)، العنوان شيق، والمحتوي شيق أيضاً، سواء قرأناه وقت ظهوره، أو قرأناه الآن، وفيه من التأمل الفلسفي أكثر مما فيه من الاقتصاد.

المقال لا يتكلم عن الحالة الاقتصادية التي سيكون عليها أحفادنا إلا من حيث حلول الوفرة محل الندرة، أي حلول عصر يكون من الممكن فيه إشباع الحاجات الإنسانية دون جهد أو دون جهد كبير، وإنما يركز «كنيز» كلامه في هذا المقال على الأثر النفسي والفكري الذي سيترتب على النجاح في حل المشكلة الاقتصادية، واتجاه اهتمامات الناس إلى مشكلات أكثر نبلا وأقل أنانية.

عندما نقرأ مقال كنيز الآن، قد يدهشنا تفاؤله بإمكانية انتهاء مشكلة الندرة الاقتصادية انتهاء تاما، بانقضاء مائة عام على وقت كتابته للمقال، وكذلك تفاؤله بأثر ذلك في نوع تفكير الناس ونظرتهم للحياة. فها نحن بعد مرور ما يقرب من تسعين عاما على ظهور المقال لا نجد أي علامة مهمة على هذا أو ذاك.

الناس مازالوا يشكون من مختلف مظاهر الندرة الاقتصادية، ليس فقط في البلاد الفقيرة، بل وفي الغنية أيضا، ومازالت نظرتهم للحياة تحكمها إلى حد كبير (بل وقد يحكمها في الأساس) المشكلة الاقتصادية أكثر من أي مشكلة أخرى. كتب كنيز هذا المقال خلال السنوات الأولى لأزمة الثلاثينيات العالمية الشهيرة.

ولكنه لم يتوقع (بعكس غيره) أن تستمر الأزمة طويلا، أو أن تكون هي نهاية النظام الرأسمالي (بعكس ما توقع البعض أيضا)، بل توقع (وكان محقا) أن يستمر بعدها التطور التكنولوجي الذي عرفه الناس قبلها.

ولكنه توقع أنه بعد نحو مائة عام (وهنا كان بعيدا عن الحقيقة) ستكون مشكلة الندرة (أي قلة الموارد الاقتصادية بالمقارنة بالحاجات الإنسانية) قد توارت إلى حد بعيد (ما لم تحدث زيادة كبيرة في السكان أو تنشب حروب خطيرة تبدد فيها الموارد)، ومن ثم توقع أن يتجه الإنسان إلى اهتمامات أخرى.

يقول كنيز إن مشكلة الندرة ظلت هي التي تحتل مكان الصدارة في اهتمامات الإنسان منذ بدء الخليقة، إذ لم يخترع الإنسان وسائل جديدة لزيادة إنتاجيته في الزراعة والصناعة زيادة ملموسة إلا منذ نهاية القرن السادس عشر، فاستمرت وسائل الإنتاج الأساسية تقريبا كما هي طوال تلك القرون السابقة على ذلك القرن (اللغة، النار، الحيوانات المستأنسة، المحراث، العجلة، المجداف، الشراع، الطوب..الخ).

واستمر الإنسان بالتالي، حتى في الدول التي تعتبر الآن متقدمة، أسير إمكاناته الاقتصادية المحدودة، ومهموما بمشكلة تخفيف أعباء الإنتاج ومحاولة زيادة أوقات الفراغ. ثم تساءل كنيز: ما الذي يمكن أن يحدث للإنسان يا ترى بعد مائة عام، عندما تطول أوقات الفراغ، ويصبح بإمكانه التفكير والاهتمام بمشاكل أخرى غير المشكلة الاقتصادية؟

لم يتوقف كنيز طويلا ليحاول الإجابة على السؤال عما يمكن أن يفعله الإنسان لملء أوقات فراغه، بل ذهب فورا إلى التساؤل عما يمكن أن يحدث من تغيير في أخلاقه ونظرته للحياة، فإذا به يعبر عن تفاؤل لا نجد له مثيلا في أيامنا هذه، النقود سوف تفقد سحرها، وتحقيق المزيد منها بزيادة الأرباح وادخارها لن يصبح هو الشاغل الأعظم للناس.

زيادة الثروة في المستقبل لن تصبح هدف أحد إلا من هم أشبه بالمرضى أو الذين يعانون من خلل عقلي، وسيركز الناس اهتمامهم على التمتع بالحاضر وما يقدمه من متع. ستزداد أهمية الدين، وستتحسن أخلاق الناس كلما قل اهتمامهم بتحصيل الثروة.

لماذا لم يتحقق تفاؤل كنيز في كلا الأمرين؟ لماذا استمر شعور الناس بالمشكلة الاقتصادية ولم تنقص سيطرتها على تفكير الناس؟ ولماذا استمرت نظرة معظم الناس إلى الحياة وإلى العلاقات الاجتماعية محكومة أساسا بالاعتبارات الاقتصادية؟ إن التقدم التكنولوجي لم يتوقف قط خلال هذه التسعين عاما، وزادت الموارد والقدرة الإنتاجية أضعافا مضاعفة منذ كتابة مقال كنيز.

فلماذا لم يسفر هذا عن انحسار أهمية المشكلة الاقتصادية وسيطرتها على تفكير الناس؟ لقد توقع كنيز أن يؤدي انحسار مشكلة الندرة إلى أن تنخفض ساعات العمل إلى ثلاث ساعات يوميا، كي يوزع العمل الذي مازال ضروريا على شخصين أو ثلاثة بدلا من أن يقوم به شخص واحد، فإذا بالذي حدث هو أن انحسار مشكلة الندرة صاحبته زيادة ساعات العمل بدلاً من تخفيضها.

 

Email