أميركا في مفترق طرق تاريخي

ت + ت - الحجم الطبيعي

ستدخل انتخابات الرئاسة الأميركية الحالية تاريخ الولايات المتحدة من أكثر من باب.

إنها - بلا شك - أسوأ انتخابات شاهدناها من أجيال على الأقل. وهي المثال الذي لم يسبق للأميركان معايشته في البذاءة والانحطاط، وغياب الأفكار السياسية والاجتماعية وحضور التحرش والشتائم والاتهامات الجنسية وغير الجنسية في انتخابات سيخرج منها من يحكم القوة الأعظم في العالم!

كان معروفاً من البداية أن الحزب الديمقراطي سيراهن على هيلاري كلينتون. وكان أقطاب الحزب يعرفون نقاط الضعف والقوة لديها، ويدركون الاتهامات التي ستوجه لها والتي تتركز أساساً على دورها في الهجوم على السفارة في ليبيا، وفي أحداث الربيع العربي «عندما كانت وزيرة للخارجية» وعلى استخدام بريدها الإلكتروني الخاص في أعمال رسمية بما يهدد سلامة البلاد «وهو الخطأ الذي اعترفت به». ولا شك أن مؤسسات الحزب كانت تعرف الحقائق حول هذه الاتهامات، خاصة أن الحزب ما زال يحكم من خلال الرئيس أوباما، ويملك الكثير من المعلومات عن هذه الموضوعات الحساسة، ولو كان أقطاب الحزب يعرفون أن هناك ما يمكن أن يسبب كارثة لمرشحتهم لما أقدموا على ترشيحها.

لكن كلينتون وأقطاب الحزب كان لديهم هواجس أخرى قد تكون أهم من المستوى الانتخابي، وهو أن الناخب سوف يعتبر كلينتون امتداداً لأوباما، وأن الرغبة في التغيير ستكون حاضرة بقوة، خاصة إذا اقتربت بإثارة قضية «حكم العائلات» من خلال الربط بينها وبين حكم زوجها الرئيس الأسبق بيل كلينتون!

وقد أثيرت كل هذه القضايا بالفعل في الانتخابات التمهيدية داخل الحزب الديمقراطي، التي انحصرت فيها المنافسة في النهاية بين كلينتون والسيناتور بيرني ساندرز، الذي خاض في مواجهتها معركة من أرقى المعارك ولعلها - فيما أعتقد - ستكون من أكثر المعارك تأثيراً في مستقبل الحياة الحزبية في أميركا في العقود المقبلة.

في المقابل كان الحزب الجمهوري يتخبط، وتأخذه المفاجأة حين تساقط كل المرشحين المحتملين في قيادات الحزب. ليأتي من المجهول السياسي هذا الملياردير الصاخب، دونالد ترامب، باعثاً برسائل التعصب والكراهية ضد الأقليات والعداء للإسلام، والانعزال عن العالم. كل ذلك مصحوب بسيل من البذاءات والشتائم والفضائح الجنسية، والاعتزاز بأنه يعرف كيف يستخدم القانون حتى لا يدفع الضرائب منذ ما يقرب من عشرين عاماً، وهو الذي تبلغ ثروته طبقاً للتقديرات الحالية 3.7 مليارات دولار فقط لا غير!

ربما تكون المنافسة قد حسمت لصالح كلينتون بفضل ما بذله ترامب من جهود صبت لمصلحتها قبل أي شيء آخر «هذا بالطبع إذا لم تحدث مفاجآت دراماتيكية في الموقف»، لكن حسم معركة الرئاسة لن يضع كلمة النهاية في المنافسة التي بدأت مع هذه الانتخابات.

إن مستقبل الحزب الجمهوري يبدو على المحك. والأخطر أنه - مهما كانت نتائج هذه الانتخابات - فإن الحزب قد دخل أزمة طاحنة. وقياداته تعرف أنها إذا كانت قد عجزت عن مواجهة ترامب الذي فرض نفسه على الحزب، فكيف ستواجه التحديات الكبيرة التي فجرتها الانتخابات، والأوضاع الخطيرة التي يواجهها المجتمع الأميركي في فترة تحول بالغة الأهمية.

على الجانب الآخر يبدو الحزب الديمقراطي أكثر تماسكاً. وتبدو قياداته أكثر مرونة في التعامل مع التحديات التي واجهتها، فهمت ظاهرة «ساندرز» والتفاف الأجيال الشابة حوله في مواجهة مرشحة «المؤسسة» الحزبية هيلاري كلينتون، وبعيداً عن مناخ الغضب والجهالة والبذاءة الذي أشاعه ترامب في المعركة الانتخابية فإن ما يجب التنبه له هو البرنامج الانتخابي الذي أعده فريق عمل مشترك من أنصار كلينتون وساندرز، لكي يكون البرنامج الملزم لها وللحزب في الفترة المقبلة. هذا البرنامج أكثر جنوحاً لليسار «بالمقاييس الأميركية» من أي برنامج سابق، التركيز واضح على ضرورة رفع الضرائب على الأثرياء، وعلى إتاحة فرص التعليم الجامعي للفقراء ومحدودي الدخل، والاهتمام بدعم الطبقة المتوسطة، بالإضافة طبعاً للوقوف ضد كل دعاوى العنصرية والكراهية والعداء للأقليات وإهانة المرأة التي أثارتها حماقات ترامب.

وتبقى النقطة الأهم في البرنامج المطروح، وهي الاعتراف بأن النظام العالمي للتجارة الذي حكم اقتصاد معظم الدول في السنوات السابقة لم يكن عادلاً. لا في العلاقات بين الدول، ولا في العلاقات الداخلية في أميركا وغيرها من الدول. حيث كان النظام - كما يرى البرنامج - منحازاً للأثرياء بين الدول والأقوياء بين الطبقات. ومن هنا الحاجة إلى تعديلات جوهرية تجعل النظام أكثر عدلاً.

أميركا تتغير، والمؤسسات الراسخة التي كانت تقرر مصير الانتخابات تتعرض لهزة لم يسبق أن تعرضت لها. وأحزاب رئيسية تتمزق، وربما نظام حزبي جديد لا يقوم على ثنائية المنافسة بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي في طريقه للتشكل.. والأهم هناك وعي بأن النظام العالمي لابد أن يتغير ليكون أكثر عدالة لأن البديل هو العنصرية والكراهية والاتجاه يميناً نحو الانعزال، قد يكون ترامب هو التمثيل الأسوأ لهذا البديل، لكنه موجود وسيجد بديلاً أفضل إذا لم تنجح قوى الاعتدال من اليمين واليسار والمعتدلين في التصدي للغوغائية والتعصب لليمين المتطرف الذي يتطابق في أهدافه مع الإرهاب الذي يضرب في أنحاء العالم.

Email