خطبة في ثلاث دقائق

ت + ت - الحجم الطبيعي

كثيراً ما يردد العرب «خير الكلام ما قل ودل»، لكننا قلما نرى في واقعنا ما يعكس ذلك. غير أن فتاة عربية قررت أن تثبت للغربيين أنها تستطيع أن تفعل ذلك وبلغتها الثانية وفي عقر دار الإنجليز!

فقد تمكنت قبل أيام نظيرة البرغوثي، الفلسطينية الأصل، من الفوز بالمركز الأول في مسابقة أجريت على مستوى بريطانيا، حيث شرحت رسالة الدكتوراه في أقل من ثلاث دقائق شرحاً وافياً غير مخل، استمتعت بالإنصات إليه.

ونالت، كما أخبرتني، مكافأة مالية قدرها 3500 جنيه استرليني بعد أن أبدعت في شرح الخريطة الذهنية لأفضل مسار فعّال للأدوية في دماغ الإنسان، أو ما أطلقت عليه «غوغل مابز للعقل». وترجو من خلال رسالتها، التي تقدمها عبر مختبرات جامعة ساوثهامبتون البريطانية، اكتشاف أفضل مسار لأدوية المصابين بمرض الزهايمر.

هذه المسابقة التي تسمى اختصاراً 3MT تُجرى لطلبة الدراسات العليا لتقوية مهاراتهم في التعبير عن أنفسهم في زمن قياسي، وهو ليس بالأمر الهين لأن رسائل الدكتوراه مثلاً تتضمن نحو 75 ألف كلمة وهو بحجم كتابين من القطع المتوسط!

هذه الحادثة ذكرتني بخطيب جمعة حينما سأله المذيع عن سبب طول خطبته التي تمتد إلى ساعة ونصف أو أكثر فقال «أنا عندي أسبابي الوجيهة»! فاستغربت رده وتساءلت وأنا أشاهد المقابلة:

إذا كانت خطبة الوداع نفسها لم تستغرق مني قرأتها جهرياً بسرعات مختلفة سوى 5 إلى 7 دقائق فلماذا لا نحذو حذو المصطفى صلى الله عليه وسلم وأسلافنا العرب في بلاغة الاختصار. نحن في عصر أصبحنا فيه أشد حاجة للمباشرة في الطرح لاسيما مع ارتفاع المستوى التعليمي عند المتلقين، وكثرة المعلومات من حولنا والتنافس في عرضها عبر شتى وسائل التواصل واليوتيوب.

والإيجاز بالمناسبة أصعب. وهذا صراعي مع معدي صفحات المقالات الأعزاء في الصحف الغراء التي أكتب فيها فهم يريدون كلمات أكثر (تتجاوز 600 كلمة) لاعتبارات إخراجية مفهومة وأنا اخترت الطريق المتعب وهو الاختصار إلى نحو 300 كلمة لأنه يلبي حاجة القرّاء في عصر لم يعد لدى الناس متسعاً كافياً من الوقت.

والملاحظ أن هذا هو التوجه العالمي، فأشهر المقاطع انتشاراً تلك التي لا تتجاوز دقائق معدودة لكنها مكثفة أو فيها قصة أو فكرة لافتة أو باسمة أو مثيرة للأحزان. ومن أمثلة ذلك فعاليات مؤتمر الخطب الملهمة TED التي تشحذ الهمم.

لماذا لا تتبنى جهة في بلداننا مسابقة وطنية لأفضل فيديو، وخطبة، وقصيدة وغيرها لا تتجاوز ثلاث دقائق نبدأ فيها من المدرسة. ألم يروى أن الصحافي المخضرم مصطفى أمين كان يطلب من الصحافي المبتدئ أن يكتب الخبر كله، كتمرين، في فقرة قصيرة لا تخل بالمعنى والعكس أحياناً وذلك ليطور قدرات التعبير كتابة. لنبدأ على الأقل في مدارسنا أو على مستوى الفصل بتنظيم هذا النوع من المسابقة الصعبة لتنمية ملكة التعبير المكثف والرشيق.

فنحن جميعاً سنحتاج يوماً للتعبير عن أنفسنا بثوانٍ أو دقائق معدودة. مثلما حدث أمس حينما جمعت شبكة سي أن أن الإخبارية كبار المحللين للتعليق على المناظرة الرئاسية الأولى لمرشحي البيت الأبيض بين هيلاري كلينتون ودونالد ترامب فكانت مدة تعليق كل متخصص أقل من دقيقتين. تماماً مثل البرلمانات والمؤتمرات حينما يقطع فيها رئيس الجلسة الصوت عن الميكروفون لمن لا يلتزم بالوقت المحدد.

ولمن يرى استحالة تطبيق ذلك في عالمنا، نذكره بما قاله عميد اللغة العربية الألمعي الجاحظ حينما سئل ما البلاغة؟ فقال: الإيجاز.

 

Email