حين تتعرى الإنسانية

ت + ت - الحجم الطبيعي

لم تتمالك مذيعة شبكة «سي إن إن CNN» الأميركية كيت بولدوان نفسها، مع عرضها لخبر انتشال الطفل السوري عمران من تحت الأنقاض، حيث حاولت قدر إمكانها أن تمنع دموعها، إلا أن صدمتها وتأثرها بالخبر بدا واضحين في صوتها، ودخلت في حالة صمت لثوانٍ عدة قبل أن تستأنف قراءة الخبر.

بدا الطفل ابن الخمسة أعوام، هو واحد من 5 أطفال جرحوا في الغارة جالساً بهدوء، ووجهه مغطى بالغبار والدماء، في مقعد سيارة الإسعاف يتحسس جراحه وبالكاد يفتح عينيه.

لكأن قدر الأطفال العرب الموت حرقاً أو تحت أنقاض الركام الذي غطى كرامتهم وأفقدهم براءة طفولتهم الطرية. ففي الفترة نفسها من العام الماضي 2015 أحرق مستوطنون يهود عائلة الدوابشة في قرية دوما، محافظة نابلس في الضفة الغربية، فلسطين.

وقد توفي الرضيع علي وعمره 18 شهراً حرقاً، وأصيب والداه وأخوه أحمد (4 سنوات) بجروح خطيرة، وتوفي لاحقاً والد الطفل ورب العائلة سعد دوابشة بعد أن تعرض جسمه لحروق وتوفيت لاحقاً الأم ريهام في المستشفى.

قبل جريمة المستوطنين بحرق عائلة الدوابشة بسنة، في يوليو 2014، اختطف مستوطنون الطفل محمد أبو خضير من حي شعفاط بالقدس وضربوه وعذبوه ثم سكبوا عليه الكاز وأحرقوه حياً حتى مات ووقفوا يتفرجون عليه وليتأكدوا أنه فارق الحياة. إلا أن صوت وصورة الضحايا الفلسطينيين لا تفارق قاتليهم.

فقد امتلأت صفحات التواصل الاجتماعي بفيديو لضابط إسرائيلي في المحكمة وهو يصرخ بحالة هستيرية: لقد قتلت الكثير من الفلسطينيين إلا أنهم لا يفارقونني في البيت، في الحمام، في الشارع، إنهم يخيفونني، إنني لا أستطيع أن أنام!

من يدفع العالم إلى غياهب الوحشية ويمده بالسلاح ويفجر الحروب؟ من ينقل آلة القتل في هذا الكون من منطقة إلى أخرى؟

في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي كان الوحش في فيتنام، ولولا تلك الصورة التي التقطها المصور «نيك أوت» للطفلة الفيتنامية «كيم فوك» والتي اعتبرت أكثر صورة تأثيراً على مر التاريخ، لما توقفت الحرب في فيتنام.

فقد جسدت الصورة مدى بشاعة وفظاعة الحرب الأميركية على ذاك البلد الآسيوي الذي احتله أولاً الفرنسيون وخرجوا مهزومين ثم تورط فيه الأميركيون. الصورة تعود إلى الطفلة كيم وهي تهرول عارية وتصرخ بعد أن أحرقت النيران جسدها بقنابل النابالم المحرمة دولياً.

وترجع تفاصيل الحادث إلى إقدام الطائرات الفيتنامية الجنوبية بالتنسيق مع القوات الأميركية بقصف قرية «تراج بانج»، قرية الطفلة «كيم فوك»، صاحبة الصورة، بقنبلة نابالم بعدما احتلتها القوات الفيتنامية الشمالية. وبعد سنوات عدة صرحت الفتاة بأنها كانت تصرخ قائلة:

«ساخن جداً ساخن جداً»، فاصطحبها المصور «نيك أوت»، وآخرون إلى مستشفى بارسكاي في مقاطعة سايجون، وتوقع الأطباء أنها لن تعيش طويلاً بسبب الحروق العنيفة، ولكن بعد 14 شهراً و17 عملية جراحية عادت «كيم فان» إلى المنزل..

كانت خسائر هذه الحرب من الفيتناميين مليوناً ومائة ألف قتيل، وثلاثة ملايين جريح، و13 مليون لاجئ، أما خسائر الأميركيين فتقدر بـ57522 قتيلاً.

ثم انتقل الوحش البشري إلى كمبوديا ولاوس حيث قتل وذبح الملايين، وبعدها إلى أفريقيا التي شهدت حروباً بين دولها وقبائلها. فخلال مئة يوم فقط من المذابح الجماعية في رواندا قتل نحو 800 ألف شخص في رواندا في عام 1994 على يد متطرفين من قبائل الهوتو الذين استهدفوا أفراد أقلية التوتسي بالإضافة إلى خصومهم السياسيين الذين لا ينتمون إلى أصولهم العرقية.

الوحش مقيم الآن في بلادنا العربية يقتل ويدمر و...يحرق. وقد تفاقمت الأزمات «المصطنعة» إلى حروب دموية طاحنة غير أن أطرافاً فاعلة في النظام الدولي (أوروبا وروسيا وأميركا) تبدو غير قلقة.

وتمارس سياسات متناقضة حتى مع مبادئ القانون الدولي؛ من ضرب بالطائرات ودعم لإرهابيين، وتشجيع للعنف المتبادل، ولا مبالاة باللاجئين في المنطقة الذين بلغ عددهم أكثر من 12 مليون لاجئ حتى يونيو 2016 نتيجة الحروب الداخلية.

وهي بهذه السياسات تضع الشرق الأوسط في أتون حرب تحرق الإنسان والحضارة، وتستنزف الجيوش والجماعات والأفكار والمجتمعات، وتُحيلها إلى كيانات هشة ومقسمة لا تكاد تؤمن بأنها موجودة في عملية تفكيك وإضعاف ممنهجة بعد أن أصاب التمزق الداخلي هذه الدول والجماعات، وبالطبع تبتعد هذه الديناميكيات العنفية عن إسرائيل..

وتحقق بالتالي هدوءاً وارتياحاً أمنياً واقتصادياً لها، رغم الحذر الذي يشوب ذلك بسبب ضعف السيطرة على مخرجات هذه السياسات متعددة الأطراف والأبعاد والأهداف حتى بين الدول الكبرى. كما ورد في دراسة للباحث جواد الحمد.

كلما اشتعلت الحروب أكثر وازدادت شهية الدول الكبرى للنفوذ وتجار الأسلحة إلى مزيد من الدم كلما تآكل الضمير العالمي وأصبح الإنسان سلعة في سوق الأسلحة. فصورة الطفلة الفيتنامية أوقفت الحرب لكن صورة عمران والدوابشة وأبو خضير لم تحرك ساكناً سوى صفحات الفيسبوك وتويتر و..دموع مذيعة الـ «CNN»!!

 

Email