التعلم بين ماذا ولماذا

ت + ت - الحجم الطبيعي

يمسك بكتاب التاريخ متذمراً، ويمضي اليوم وهو يكرر المعلومة ذاتها، حتى يتسنى له حفظها وتذكرها في اختبار الغد »بلغت قوات جيش المسلمين ستة وثلاثين ألف مقاتل، وقوات جيش الروم مئتين وأربعين ألف مقاتل«، ويكرر »المسلمين، ستة وثلاثين، والروم، مئتين وأربعين«، وتراه يبتكر طرقاً لربط تلك الأرقام في ذاكرته القصيرة المدى، وهو يتساءل: لماذا يجب علي حفظها؟.

كثيرة هي التساؤلات التي تصارعت في أذهاننا، عندما تلقينا علومنا الغضة في سنواتنا الأولى في المدرسة، ولربما حينها لم نجد الإجابة الشافية والكافية لتهدئتها، ولم تُخمد إلا حين رسموا في أذهاننا صورة بأن المعلومات التي تُلقن في المدرسة، هي حقائق مطلقة يُستلزم الإيمان بها، فلماذا نعتبر 2=1+1 قاعدة ثابتة؟

، وكيف وصلنا إلى أن 30=5x6 مسلَّمة ومبدأ رياضي لا مجال للتغيير فيه؟، وكيف لنا ألا نشعر بسرعة دوران الأرض ونحن ندور معها؟، ومن نقل أقوال قادة التاريخ بدقتها لتصل إلى زمننا هذا؟.

قد تتوارد تلك الأفكار في عقل طالب يبحث عن يقين الحقيقة التي قد لا يجدها، ذاك الذي تستفزه الكلمة المجهولة المعنى، والمعلومة الناقصة، والصورة غير المكتملة، ذاك هو الذي قد تقتل مدارسنا فيه روح الطفل الفضولي للمعرفة، بتلقين المعلومات دون تفسيرها، وبالتغافل عن بناء شغف إدراك خباياها ومغزاها واستلهام فائدتها، ليُرسم في ذهنه صورة بأن العلم محصور في كتب مناهج التعليم بقوانينه الثابتة، والمعلومات التي سيتم اختباره فيها، لنقيد العلم في إطار ما يسمى بـ »أهداف الدرس«، أو »ماذا سنتعلم اليوم؟

«، أو »student will be able to learn«، وندرج تحتها بضع عناوين فرعية نلتزم بتعلمها، فنجعل الطالب يؤمن بأن المعلومات التي سيتلقاها، لن تخرج عن ذلك الصندوق، سواء أستعشر أهميتها أم لا.

لماذا لا يُختبر الطالب على مدى إدراكه بأن الفئة القليلة تغلب الفئة الكثيرة بنصر الله وبالإيمان به، بدلاً من التركيز على اختبار مهارته في حفظ أعداد جيوش؟ لماذا لا يُختبر على العبر المستنبطة من النصوص القرائية، بدلاً من اختباره في أسماء شخصياتها وصفاتها، التي لا وجود لها على أرض الواقع؟، لماذا يُختبر حفظه لتاريخ وفاة شاعر ما وعناوين دواوينه، ويتم التغافل عن دروس الحياة المستفادة من التحديات التي واجهها، وانتقاد مضامين دواوينه؟.

ماذا لو استُبدل عنوان »ماذا سنتعلم اليوم؟« في الكتب المدرسية، بـ »لماذا سنتعلم هذه المعلومات اليوم؟«، أو أُضيف إليه؟، لنترك مساحة للعقول المفكرة بأن تستنبط ذلك، حتى تهدأ صراعاتها، فاستخدام المعلومة في استخلاص العبرة المستفادة، لا تقل أهمية عن معرفتها.

لم يشك إبراهيم عليه السلام في الإيمان بقدرة الله تعالى، حينما سأله أن يريه كيف يحيي الموتى، وإنما أراد أن يطمئن قلبه بالوصول إلى درجة اليقين، تلك الدرجة التي قد نصل إليها، إذا ما فسرنا ما نراه ونقرأه ونسمعه، حتى نلتمس قيمته، ولطالما كانت المعلومة التي سعينا بالتقصي عنها والتعمق فيها، عندما استشعرنا فائدتها ومغزاها، وهدأت عقولنا بالاقتناع بها راسخة في ذاكرتنا، هي تلك التي نملك القدرة في استحضارها في أي حين وفي أي وقت، لنذكرها حججاً وأدلةً نناقشها بكل ثقة، بعدما اطمأنت قلوبنا باليقين بها.

أتساءل، يا ترى، بعد أعوامٍ، لو اختبرنا ذاك الطالب في تعداد جيوش المسلمين والروم، هل سيتذكرها؟

Email