ارحل يا دانيال.. هذه بلادي

ت + ت - الحجم الطبيعي

فاجأني بسؤاله، ظننته يمزح. قلت له: يافا.. يافا؟، كانت علامات الاستغراب تنقط من صوتي. قال: نعم، أنا ذاهب غداً إلى يافا. كدت أقول له: هاتها معك، فنحن ننتظرها منذ ثمانٍ وستين سنة.

ناديناها ولم تأتِ. حاربنا فابتعدت. قمنا بانقلابات وأصدرنا البيان الأول باسمها، ووعدنا أن «نحررها شبراً شبراً، من البحر إلى النهر»، فضحك البحر علينا وجف النهر. باسمها واسم فلسطين، امتلأت السجون بالمعتقلين، نسينا الصحة والتنمية والتربية والتعليم، وخصصنا نصف موازنات الدولة للتسليح والحرس وشراء الطائرات والبوارج لمعركة التحرير!!،

اختلفنا على الطريق، الوحدة أولاً أم الحرية أم الاشتراكية أم الرأسمالية، السوق الحر، والانفتاح على الكل. انقسمنا إلى فريقين. واحد اتجه شرقاً ليتسلح بطائرات السوخوي والميغ، فيما اتجه الفريق الآخر إلى الغرب ليتسلح بطائرات الفانتوم والشبح وهيركوليز وصواريخ هوك وغيرها.

لا هذا حرر فلسطين، ولا ذاك منع إسرائيل أن تتمدد وتتوسع، وتضع يديها في ماء بارد، وتغسل رجليها في النيل والفرات، أما أسلحة «تحرير فلسطين»، فبعضها صدأ في مخازنه، وبعضها تصدى لبعضه في حروب الإخوة الأعداء.

سقطت شعارات وعنتريات ونظريات، وسقطت القدس والجولان وسيناء ودول، ولم يتحرر شبر من الأرض المحتلة. إذن السلاح الذي لا إرادة وراءه، لن يحرر فلسطين، خاصة أن فلسطين لم تعد أولوية بظهور فلسطينات جديدة، عبارة عن ارتدادات لفلسطين الأولى في طول الوطن العربي وعمقه.

الفلسطينيون الذين أصبح عددهم داخل فلسطين وخارجها حوالي 12 مليوناً، طبقاً لإحصاءات 2015، ابتدعوا وسائل جديدة للبقاء، تتناسب مع حالة الضياع التي تعيشها الأمة، وسائل قد تبدو رومانسية بالنسبة للبعض، لكنها بالنسبة للواقع المتردي حقيقية.

من هذه الوسائل، أن يكسر فلسطينيو الشتات حاجز تهمة التطبيع مع العدو، ويقوموا بزيارة قراهم ومدنهم التي طرد منها آباؤهم وأجدادهم في نكبة 1948 و«نكسة» 1967، أن يلتقوا أشقاءهم وأقاربهم المقيمين في «البلاد»، كما تخرج بعفوية المؤمن بأن فلسطين هي فلسطين، حتى لو سمّاها المحتلون العابرون «إسرائيل».

أما الذين لم يذهبوا إلى البلاد، فإنهم يوصون من يذهب أن يكتب أسماءهم على ورقة في أوطانهم الصغيرة، التي سرقت منهم، أعني قراهم ومدنهم، ويلتقطوا لها صوراً ينشرونها على صفحته على وسائل التواصل الاجتماعي، تماماً كما فعلت أنا، حين سألني صديقي خالد شلباية: ماذا تريد من يافا.

فطلبت منه أن يكتب اسمي أمام مسجد حسن بك في يافا، وهو المسجد الذي كان يحدثني عنه أبي، كأحد أبرز معالم يافا الباقية، بعد أن ابتلعتها تل أبيب، عاصمة الكيان الإسرائيلي، قبل أن يتخذوا القدس «عاصمة أبدية»!

وثمة عامل آخر سيحقق حلم تحرير فلسطين، وهو انتهاء مفعول الحلم الإسرائيلي، المبني على وهم وكذبة. وقد بدأت نهايات هذه الكذبة تظهر على الإسرائيليين، ناساً وساسة وعساكر. وبدا المجتمع الإسرائيلي يتصدع بين يمين ويمين متطرف، ويسار خجول في ما يتعلق بالحق الفلسطيني.

لقد أحدثت استقالة وزير الحرب (الدفاع) الإسرائيلي، موشيه يعالون، الأسبوع الماضي، هزة في الأوساط الإسرائيلية.

وقد أعلن يعالون في استقالته، أنه لم يعد يثق برئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، الذي يقود إسرائيل إلى التطرف، فيما وصف رئيس الوزراء ووزير الحرب الأسبق إيهودا باراك، سياسة نتنياهو بالفاشية. وهذا أخطر ما يحدث في إسرائيل، أي أن توجه إلى حكومتها تهمة الفاشية، ليس من العرب، بل من شخصيات كانت في قمة القيادة.

استقالة موشيه يعالون من وزارة الحرب في حكومة نتنياهو، لدوافع مهنية وأخلاقية، كما وصفها، وتولي المستوطن المتطرف ليبرمان حقيبتها، ظاهرة الأزمة الدالة على التحولات الجارية في بنية المجتمع الإسرائيلي، والصراع الخفي والمعلن بين شرائحه وتوجهاته، فأصحاب نظرية ضم المستوطنات على أراضي 67 وتوسيعها، هم الذين يقودون المشروع الاستعماري التوسعي الإسرائيلي، وعلى رأسهم نتنياهو.

روني دانيال (مواليد 1947)، كاتب ومحلل عسكري في القناة العبرية الثانية منذ إنشائها عام 1993، ولد دانيال في بغداد، توفي والده عندما كان في الثانية، وفي عام 1950، في سن ثلاث سنوات، هاجر إلى فلسطين المحتلة «إسرائيل».

وهو متزوج ويعيش في تل أبيب، أثار دانيال يوم الجمعة الماضي، عاصفة، فهو معروف بدفاعه المستميت عن الجيش الإسرائيلي، إلا أنه أعلن خلال نقاش في «استوديو الجمعة» في القناة الثانية، بأنه ليس متأكداً بعد هذا الأسبوع، من أنه يريد لأولاده مواصلة العيش في «إسرائيل»، وقال دانيال، الذي تردد صدى تصريحاته في الشبكات الاجتماعية، طوال نهاية الأسبوع:

«أنا لم أعد شاباً. نشأت في كيبوتس معوز حاييم، حرثت الأرض قرب الأردن، قالوا نذهب للجيش فذهبت، قالوا يجب أن نكون ضباطاً فأصبحت، قالوا يجب أن تقود كتيبة ففعلت. شاركت في كل الحروب التي طلب مني المشاركة فيها. لكنني، ولأول مرة، أشعر بعد هذا الأسبوع، بأنني لست متأكداً من رغبتي ببقاء أولادي هناً.

فعلاً يا دانيال، من الأفضل أن يعود أولادك إلى بلادهم، فهذه البلاد بلاد أجدادي، وبلادي، وبلاد أولادي.

 

Email