«باستيل» المرأة

ت + ت - الحجم الطبيعي

ما أسهل على إحداهن أن تدعي الألم والحزن والشقاء، كي تستعطف رجلاً كان حبيباً مستهدفاً، أو عشيقاً محتملاً، أو زوجاً مُهْمِلاً غير مكترث، فالمسألة لا تتجاوز سوى دَمْعات تجرف كُحل العين على الخدّين، وعيون مائلة ينحني معها العاشق حيثما تميل، فادعاء الحزن أكثر دهاء من الفرح، وهو أقصر الطرق وأنجع المصائد التي تنصبها المرأة لأحدهم.

ولكن ما أصعب وما أشقى وأقسى من أن تدعي المرأة سعادتها وألقها وزهوتها، فتُخفي ألمها العاطفي أو الجسدي أمام من تحب وتعشق، كي لا تجرحه أو تقلقه، أو حتى تظهر عجزه على مساعدتها. وفي ذلك نكران النفس والروح والجسد.

ولعل المرأة منذ الأزل، جُبِلت على الشّقاء والتحمّل والتضحيّة لمن حولها، كما جُبِلت على الشراسة والحيلة والتحمل، كزوجة الأسد، تصطاد لتطعم صغارها، فيأتي الأسد مختالاً متمايلاً.

فيأكل فريستها أولاً، وما عليها إلا أن تستسلم وتدعي السعادة بما يأكل ويستأنس. ولا أرى اختلافاً بين أسد الغاب ورجل المدينة في القرن الواحد والعشرين في التعامل مع أنثاه. فكلاهما كسول وخمول، ينشط لحاجته ويأكل لمتعته. ثم يترك البقايا ويذبل وينام، وهكذا دواليك.

في الشرق وبلادها، اعتاد الرجل أن يبذر زرعه قبل المطر، ويلقي مسؤولية ما تبقى على الطبيعة وفصولها، واحتمالية سقوط الغيث، كما يلقي بجهد رعاية البذور في أرضها على امرأته، فترعاها ليل نهار، وتتألم وتشقى، وقد تهلك في رحاب حقل الطبيعة المرّة، فتعيش عمرها بكامله راعية للبذور والثمر. تقطف وتطعم وهي جوعى وتدعي الشبع، وحزينة وتدعي الفرح، وخائفة تدعي الطمأنينة.

وهكذا، تعيش إحداهن في كَنَف الرجل، تتنفس بالفائض من أوكسجين رئتيه، وتقطف له الثمر الناضج، دون أن تتذوق بعضاً منه، وتضيء كامل حياتها بظلّه، وتموج حيثما يموج، وتدعي أنها تحب الغرق في بحره، ولا تبوح بحسرتها أو ألمها، حفاظاً على مهابة قامته الفارغة.

فتعيش في عقدة عالميْن، أولهما الألم الحقيقي، وثانيهما أشد قسوة، بزعمها أنها سيدة الفرح والسعادة، ازدواجية لا يمكن احتمالها، تتحول فيها المرأة إلى أم ولود، وسيدة بيت كاملة الأوصاف، وعاملة ومربية، فكيف لا، وهي الحقل والجذور والشجر والثمر.

تزعم أنها تملك كل شيء حي من حولها!. وفي خضم هذه المعضلة المركبة للمرأة، ثمة سؤال صارخ، هل تعيش ما تملكه؟، وإن عاشته، هل تَحيَاه كما تُحب؟، وإن فعلت، هل تعبّر عنه كما ترغب وتشتهي؟، فإن فَعَلت، ضَمِنت لها أجنحة الحريّة والحياة، ولها الفريسة كاملة بلا أسد متسلط كسول، وضَمِنت شريكاً كاملاً. ولكن قِلّة من يفْعَلن ذلك.

فأذرع أخطبوط الرجل الظاهرة والخفيّة، تحاصر المرأة ليل نهار، وكأنها قضبان سجن الباستيل المحصن على مملكة أنانية الرجل المستبد، بلا قارب نجاة.

نعم، هي القلة اللائي يفعلن، يدركن أن فعل الخروج من السجن التاريخي في كَنَف الرجل المستبد العتيد، ليس مستحيلاً أو صعباً، كما كن يتخيلن، وأن أصعب ما فيه وأولى خطواته، هو التعبير الصريح والقدرة على المواجهة، والإصرار على المشاركة في الزرع والحصاد وأكل الثمر.

فإن تنازل الرجل المستبد عن عليائه، وشارك المرأة في فرحها وألمها الحقيقين، دون زيف أو ادعاء منها، صارت الحياة أقرب إليهما، وحتماً سيعيشون الحياة كاملة في الباستيل المُحرّر، فقارب نجاتهما، أنهما يعيشان الحياة كما أتيحت لهما، بلا تراتبية أو ازدواجية. فالألم هو الألم، والفرح هو الفرح، المهم أن نعبر عنهما كما نشاء، وبما تعكسه أحاسيسنا، فيشاركنا الطرف الآخر دون تردد أو خنوع أو خجل أو ارتباك.

كوني كما أنتِ، وحاصري أحلامك بحرية اختيارك، فحقلك مدى بصرك، والسماء حدوده. قولي ما تشائين، واختاري ما ترغبين ومن تحبين، وامتهني التعبير عن نفسك كما هي نفسك، دون تأجيل أو تسويف أو تزوير، كوني كما أنتِ، لتكوني أنتِ، ولا أحد غيركِ فيكِ.

 

Email