القدس بين مسكوفيتش وأبو خديجة

ت + ت - الحجم الطبيعي

للعلاقة بين التوسل بالمال وبين سيرورة المشروع الصهيوني الاستيطاني في فلسطين قصة تروى.. من أبرز دروسها أنه لم يسبق للصهيونية، الحركة ثم الدولة، الجأر بالشكوى من العوز أو ضيق ذات اليد. لقد طبق الصهاينة مخططاتهم الجهنمية للسيطرة على فلسطين، محاولين استيطانها وتهويد ما تيسر لهم من جغرافيتها وتاريخها ومحو هويتها الحضارية العربية الإسلامية، مستندين الى ركن مالي مكين.

ضمن التفصيلات الشهيرة لهذه العلاقة يلح على الخاطر مثلان.. أولهما قديم نسبيا هو أن الممولين الكبار من عائلة روتشيلد الثرية؛ التي تفرد أجنحتها الاقتصادية المالية من غرب أوروبا الى شرق الولايات المتحدة على ضفتي الأطلسي، هي التي تولت انشاء أوائل المستوطنات الصهيونية في الديار الفلسطينية.

وهي التي وضعت أموالا طائلة تحت تصرف الصهاينة المؤسسين؛ بما مكن أباهم الروحي تيودور هيرتزل من محاولة استدراج السلطان العثماني عبد الحميد الثاني الى تسديد ديون السلطنة، لقاء السماح باستخلاص فلسطين لليهود.

أما المثل الثاني فحديث معاصر نعاين تفاعلاته وحصاده للأربعين عاما الأخيرة، وهو يخص الجهود التي يبذلها ارفينج مسكوفيتش، الطبيب ورجل الأعمال الأميركي اليهودي، للجمع بين مهمات متناقضة.. اذ تخصص في شراء المستشفيات والكازينوهات في ولاية كاليفورنيا، وذلك بالتوازي مع تمويل الجمعيات الصهيونية العاملة على تهويد القدس، وفي طليعتها جمعية عطيرات كوهانيم.

لا ندري كيف يمكن لأمرئ توظيف أمواله على هذا النحو، لكن المؤكد أن مسكوفيتش وحده، وعبر المؤسسة التي تحمل اسمه، كرس ما يزيد على خمسمئة مليون دولار لمحاولة شراء عقارات تعود ملكيتها للمقدسيين وتحويلها بكل أساليب الاغراء والضغط الى مستوطنين يهود.

مقابل المدد المالي اللامقطوع واللاممنوع الذي حظي به الصهاينة منذ أواخر القرن التاسع عشر، عانى الفلسطينيون ومازالوا من أوضاع مالية بائسة تثير الشفقة، لدرجة أن غالبيتهم تعيش على حد الكفاف وتتدبر حياتها الاقتصادية يوما بيوم وفي أحسن الأحوال شهرا بشهر!..

في بيئة كهذه، يصبح للرباط الفلسطيني في القدس بالتحديد معان تستحق أكثر الأوصاف سموا ورفعة. ففي رحاب هذه المدينة يتعرض الفلسطينيون لكل ما يمكن للنفس البشرية مواجهته من ضغوط واغراءات، كي يغادروا الى غير رجعة.

هناك لا يمكن لفلسطيني أن يضيف غرفة أو شرفة الى منزل يمتلكه، بدون تصريح اسرائيلي لا يصدر، ان صدر، الا بشق الأنفس. وهناك لا تقاس الملكية بالدونمات أو الفدادين أو الهكتارات، وانما بالأمتار والأذرع والأشبار.. وللاستحواذ على كل متر وشبر تدور معركة لا تعرفها قطعة أرض على كوكبنا.

معركة موضوعها الأساسي التهويد ومقاومته؛ وأحد أهم الأسلحة الصهيونية المستخدمة فيها التلويح بالمال، ومحاولة زغللة أعين المقدسيين الأصليين وتطويع أنفسهم وتليين عريكتهم بعرض أثمان فلكية لما يمتلكون، صغرت أم كبرت مساحته.

خذ عندك بلا حصر، ما يجري مع عماد أبو خديجة، المقدسي الذي تساومه جمعيات الاستيطان؛ مدججة بأموال مسكوفيتش وأضرابه، للتخلي عن ملكية دكان لا تزيد مساحته على بضعة أمتار مربعة نظير 24 مليون دولار (نعم لم تخطيء في قراءة الرقم، 24 مليونا)!.

يقول الرجل «.. نحن هنا لسنا أصحاب دكاكين وبيوت بل حراس لها. ترهقنا سلطات الاحتلال بالضرائب وفواتير الكهرباء والماء من جهة ويغوينا المستوطنون بالمال للبيع من جهة أخرى. أداوم في دكاني بين الخامسة صباحا ومنتصف الليل، وقد لا أكسب ما يكفي لقوت يوم. لكننا نعتبر القدس أمانة في رقابنا، ولا أحد يساعدنا، ولن أبيع الدكان تحت أي ظرف وبأي مبلغ..».

نحن إزاء حرب ضروس بين أموال مسكوفيتش وإرادة أبو خديجة.. ولله در هذا المقدسي الصلب الرائع والمرابطين معه، وهم مازالوا قادرين على الصمود والمقاومة. ننحني ونرفع له ولهم القبعة، ولعلنا بلغنا رسالته ورسالتهم وخلاصتها أن لا ندعهم وحدهم.

Email