حول دولة «الديمقراطية التوافقية»

ت + ت - الحجم الطبيعي

صاغ المفكر الهولندي آرنيت ليبهام، مفهوم «الديمقراطية التوافقية»، كأحد أشكال ممارسة السلطة في البلدان التي تشكو من تفكك مجتمعي، وضعف في التمسك بالهوية الوطنية، وتشهد أزمات بشكل متواتر، بسبب تعدد الانتماءات والثقافات، ولا تخلو أجواؤها من مواجهات. فهذا النوع من الديمقراطية..

لا يكتفي باعتبار الأغلبية النيابية معياراً وحيداً لشرعية حكمها، وإنما الأخذ بنظر الاعتبار، معياراً آخر، هو توافق هذه الأغلبية مع الآخرين، وإشراك جميع المكونات المجتمعية في السلطة. أحد أبرز ركائز هذا النوع من الديمقراطية، هو «الحكومة الائتلافية»، التي تجمع الأكثرية مع الأقلية أو الأقليات، تشترك معاً في صياغة القرارات، ضماناً لاستتباب الأمن، وحصانة ضد الانزلاق إلى المواجهات، وربما الحروب الأهلية.

لم تكن مبادرة آرنيت ليبهام، مجرد ترف فكري، بل تنظيراً في استراتيجية إدارة النزاعات، فقد كانت استجابة موضوعية لتداعيات ما أفرزته الحروب من ويلات على أرض القارة الأوروبية، التي سارعت إلى احتضان هذه الفكرة الجديدة، وطورتها، لتظهر بنماذج حكم متعددة في كل من بلجيكا وهولندا وسويسرا والنمسا..

وهي دول تحتاج مجتمعاتها المتنوعة التركيب في القوميات واللغات، إلى معالجات بطرائق تبتعد في رؤاها عن رؤى منظري الديمقراطيات التقليدية الشائعة في دول أوربية أخرى، مثل بريطانيا وفرنسا، حيث تعتمد حكم الأغلبية النيابية، وتهمش الأقلية، عدا الحالات التي تدخل فيها الدولة في حرب.

تتميز الديمقراطية التوافقية، بنسبية التمثيل للفرقاء، والفيتو المتبادل بينها، وذلك لحماية الأقليات ضد قرار الأكثرية، وتسمح كذلك بمنح الأقليات التي تتكلم لغتها في موقع جغرافي تسود فيه معالمها الثقافية ورموزها التأريخية، نوعاً من الحكم المحلي.

وقد توسع الأخذ بهذا الأسلوب في ممارسة السلطة، ليصل إلى كندا، وإلى دول آسيوية، مثل ماليزيا ولبنان، وأخيراً العراق، بعد الاحتلال الأميركي عام 2003. والحقيقة أن هذا النموذج من أنظمة الحكم، قد تلقى دفعة كبيرة مع انهيار منظومات الحكم التوليتاري، حكم الحزب الواحد، وتسلط الأيديولوجية الواحدة منذ نهاية الحرب الباردة.

الديمقراطية التوافقية، فرضت نفسها في بعض الدول، لتلافي مخاطر ما قد يلحقه تنظير تقليدي يقلل من شأن المشاكل ذات العلاقة بالتنوع العرقي والديني والمذهبي. فهذا النوع من الديمقراطية، له حظ في النجاح، حين تكون هناك بعض المشتركات الهامة بين الفرقاء، إلا أنها فاشلة خلافاً لذلك، كما هو الحال في قبرص، إذ ليس هناك ما هو مشترك بين الأتراك واليونانيين، سواء في اللغة أو في الجذور الثقافية.

في العراق، ومنذ عام 2003، تحولت المكونات العرقية والطائفية، إلى كتل أو أحزاب سياسية، وهو ما شكل نسياناً، بل انقلاباً على التجربة الحزبية الأولى التي نشأت مع تأسيس الدولة العراقية عام 1921، على أسس الأجندة السياسية عابرة للانتماءات العرقية والدينية والمذهبية. وفي ضوء ذلك، وضع دستور عام 2005، ليكرس هذا النوع من أساليب الحكم، على الرغم من أن التسمية الشائعة في الأوساط السياسية والإعلامية هي «المحاصصة».

إلا أن هذا النوع من الممارسات الديمقراطية، له عيوبه، كغيره، فقد تستطيع الأقلية، لهذا السبب أو ذاك، إعاقة تنفيذ الكثير من الإجراءات، كما أنه قد يسهم في تعميق الانقسام المجتمعي، حين يصبح عرفاً وتقليداً، كما حصل في العراق، إذ طبقت هذه الممارسة، ليس على مستوى الهيئات التي تُرسم فيها السياسات وتصاغ القرارات الهامة، بل على أدنى المستويات في مؤسسات الدولة، دون الأخذ بنظر الاعتبار، مدى ما يلحق ذلك من أضرار في المصالح العامة.

وقد خلقت التراكمات على مدى ثلاثة عشر عاماً، هوة سحيقة بين الطبقة السياسية الحاكمة، وبين الشارع الغاضب، بعد أن تلاشت فرص الإصلاح، خاصة والعراق يواجه مشاكل أمنية على درجة كبيرة من الخطورة من جهة، ويعاني من مشاكل اقتصادية كبيرة من جهة أخرى.

من الصعب القول إن هذا النوع من أنظمة الحكم فاشل بالمطلق، لأنه أصبح عامل إعاقة وشلل في مؤسسات الدولة، كما حصل في لبنان، وأوصل العملية السياسية في العراق إلى طرق مسدودة، وذلك لأنه من جانب آخر، حفظ هذا النظام للسويسريين وللهولنديين وللبلجيكيين وللنمساويين كياناتهم، وأسهم في إبعاد شبح المواجهات عن شعوبهم..

وهو الذي سمح للفرنسيين في مقاطعة كيوبك الكندية، البقاء ضمن الدولة الكندية. هذا النظام لم يقلص من مساحات الحريات المتاحة لشعوب هذه البلدان، ولم يقف حائلاً أمام تقدمهم، ولا أسهم في عزلتهم دولياً.

في هذا السياق، أعلن النواب المعتصمون في مبنى مجلس النواب العراقي، رفضهم الاستمرار بالعمل بنظام المحاصصة، والعمل في ضوء ذلك على إقالة الرئاسات الثلاث، واستبدالها برئاسات أخرى، بعيداً عن هذا النظام، وأعلنوا أنهم سيعمدون إلى تشكيل كتلة معارضة في مجلس النواب، في حال فشلهم في تحقيق ذلك.

فرص هؤلاء في النجاح، محدودة جداً، في ظل الأوضاع السائدة في العراق، فالخلل قد لا يكون في نظام الحكم المعتمد، بل في ممارسات النخب السياسية، التي لم تتمكن حتى الآن من التوافق على قانون انتخابات رصين، يدفع لقبة البرلمان من يستحق ذلك، وفشلت في التوافق على إصدار قانون ينظم إجازة وممارسات الأحزاب، وفشلت في الالتزام بما ورد في الدستور، من احترام لاستقلالية القضاء، واستقلالية الهيئات التي تتعلق مهامها بالصالح العام، ومنها المفوضية العليا للانتخابات، وهيئة النزاهة والبنك المركزي، وديوان الرقابة المالية، بل أخضعتها للمحاصصة.

 

Email