أزمتان على ضفتي المتوسط

ت + ت - الحجم الطبيعي

موجة الهجرة واللجوء المتفاعلة راهنا من الرحاب «الشرق أوسطية» الى عالم الغرب الأوروبي، أغرت البعض بإجراء مقارنات ومشابهات لا تخلو من مغزى.

ومما يقال في ذلك إننا لسنا بصدد ظاهرة جديدة تماما، لأن جانبي المتوسط عرفا مثلها منذ أكثر من خمسين عاما، وكل ما في الأمر هو زيادة أعداد المهاجرين واللاجئين بشكل غير مسبوق؛ بالتعامد مع مناخ شرق أوسطي مفعم بالمنازعات الأهلية الطاحنة والطاردة في ذات الوقت.

هذه القراءات المقارنة لا تخلو من فائدة، لاسيما انها استهدفت استخلاص العبر والتحسب للتداعيات ووضع السياسات الملائمة للتعامل مع الظاهرة. بيد انه يتوجب على المجتهدين في هذه الحالة، العناية بتحري المعطيات الموضوعية المحيطة بها؛ التي لا بد من أن الاختلاف قد اعتراها بحكم مرور الزمن وسنن تغير الأحوال.

وهنا نلاحظ أن ستينات القرن الماضي وسبعيناته شهدت حقا موجة من الهجرة والنزوح من جنوب المتوسط باتجاه شماله، لكنها جرت بأعداد قليلة، وفي سياقات سمحت للدول المعنية على الضفتين بضبط القضية والتحكم في ايقاعها، وقد نقول مأسستها، الى حد معقول.

قبل نصف قرن، كان معظم مهاجري الجنوب ولاجئيه معروفين تقريبا لدي الأوروبيين، وكان من السهل اخضاعهم لعمليات من الفحص والتحري والانتقاء. ولم تكن مافيات تهريب الناس بالجملة، على مراكب الموت المتهالكة، قد انتشرت. كانت أوروبا تعيش أجواء انتعاش اقتصادي، كثفت الحاجة للأيدي العاملة التي وفرها المهاجرون واللاجئون بتكلفة زهيدة.

والأهم، أن حديث المخاوف الأمنية المترتبة على الظاهرة كان خافتا؛ يدور في أروقة محدودة وليس ملء السمع والبصر كما هو اليوم؛ الذي يبدو فيه كل مهاجر أو لاجئ وكأنه يحمل مشروعا ارهابيا محتملا، يمكنه التنقل بسلاسة ويسر في ربوع القارة كلها محميا بآلية شنجن.

حين اتجه الاتحاديون الأوروبيون الى اشتقاق سياسة خارجية مشتركة، وفقا لما عرف بآلية التعاون السياسي عام 1971، قال بعض الفقهاء بأن نجاح هذا التوجه من عدمه مرهون بالتوافق الأوروبي حول التعامل مع بعض القضايا الساخنة بالجوار الجنوبي.

ذلك لأن القارة الأوروبية تتأثر استراتيجيا بالانعكاسات الأمنية، السلبية أو الايجابية، لما يدور في هذا الجوار. والحق أن ما يجري راهنا من مناظرات أوروبية صاخبة، بشأن الخطوات واجبة الاتباع تجاه المهاجرين واللاجئين، تكاد تمثل أكثر الاختبارات قسوة لهذه التجربة الاتحادية. الأمر الذي يوحي بصدقية ذلك الحدس.

بصيغة أخرى، يصعب اغفال الصلة بين ما يعتمل الآن في المشهدين الشرق أوسطي والأوروبي. لا يمكن مثلا انكار أصداء استمرار الصراع في فلسطين التاريخية وعمليات الهدم والبناء والاحتراب الأهلي بجوارها، في تغذية وتصعيد موجة الهجرة واللجوء الى أوروبا.

وهي الموجة التي أشعلت خلافات بين أعضاء الاتحاد؛ وأثارت تساؤلات تكاد تعصف ببعض أسس هذه التجربة ومنجزاتها حول: آفاق الحدود المفتوحة؛ توزيع الأعباء بين الأعضاء؛ التكلفة الاجتماعية والاقتصادية لاستقبال المهاجرين واللاجئين، التداعيات العاجلة والآجلة للظاهرة على النمط الثقافي للحياة؛ القدرات الاستيعابية المتفاوتة بين الأعضاء؛ حدود الالتزام بقوانين الهجرة واللجوء الأوروبية التي أبرمت في ظروف مختلفة.

اللافت أن هذه الاستفهامات ونحوها فرضت على الأوروبيين التفكير بمنطق المصالح الوطنية والقومية الضيقة؛ التي اجتهد أصحاب التوجه الاتحادي طويلا لتنحيتها.

وهو ما يعد انتكاسة لهذا التوجه. وفي بعض الأحايين تتغاير اجابات القوى السياسية عن مثل هذه الاستفهامات في اروقة صناعة القرار، بحيث يمكن العثور على الموقف وضده، داخل الدول الأعضاء ذاتها وليس بينها فقط.

واضح أن هذه الموجة أدخلت الأوروبيين في متوالية من الأزمات، على الصعيدين الاتحادي والقومي. ومن غير المرجح أن يهتدي هؤلاء الى طريق الخلاص من أحابيل هذه المتوالية قبل استقرار الأحوال لدى جيرانهم في جنوب المتوسط.

Email