الصين تحركت والعاقبة عندنا

ت + ت - الحجم الطبيعي

بعد أيام من «خطاب الاتحاد» السنوي الأخير للرئيس الأميركي أوباما الذي أكد فيه الخطوط الرئيسية لسياسته التي تعني ـ فيما يخص الشرق الأوسط ـ كما في غيره من المناطق، عدم الانخراط في حروب مثل تلك التي تحملت مرارتها أميركا في عهد بوش الابن.

بعد أيام من هذا الخطاب كانت المنطقة تستقبل الرئيس الصيني شي غين بينغ في زيارة يبدأ بها عاما يتم فيه الاحتفال بحدث سياسي كبير بالنسبة للصين.. وهو مرور ستين عاماً على الاعتراف التاريخي الذي اخترقت به مصر عام 1956 كل المحظورات الغربية التي كانت تحاصر الصين الشعبية وتعطي مقعداً في مجلس الأمن لدويلة فورموزا رغم إرادة مئات الملايين من شعب الصين وتأييد معظم شعوب العالم.

لم يكن الأمر سهلا، بل كان فصلا من معركة طويلة وقاسية لتحقيق الاستقلال الوطني لشعوب المنطقة، ولتحرير الإرادة الوطنية للشعوب والدول العربية ودول العالم الثالث.

قبل الاعتراف بعام واحد كان اللقاء الأول بين عبد الناصر والزعيم الصيني شواين لاي في مؤتمر باندونج عام 1955، يومها قال شواين لاي إنه يعرف الصعوبات التي تقف في وجه اعتراف مصر الدبلوماسي ببلاده، لكنه يقدر كفاح مصر والعرب من أجل الاستقلال والتحرير والتقدم كما تفعل بلاده.

ويومها كانت الخطوة الأولى في معركة كسر احتكار الغرب للسلاح في المنطقة وحرمانهم مصر والدول العربية من السلاح الذي يمكنهم من التصدي لعدوان إسرائيل ورغبتها في التوسع.

وكان ذلك حين طلب عبد الناصر من شواين لاي استطلاع رأي موسكو في إمكانية تزويد مصر بالسلاح، لتجيء الإجابة بعد شهور بالموافقة، ولتتم أول صفقة سلاح «سوفيتية» لمصر عن طريق تشيكوسلوفاكيا.

ولتبدأ علاقة وثيقة بين مصر والاتحاد السوفيتي يومها تعززت بعد تأميم مصر قناة السويس، وبعد العدوان الثلاثي الذي شنته فرنسا وبريطانيا وإسرائيل على مصر، وبعد دحر هذا العدوان وسيطرة مصر على القناة وبدء العمل في بناء السد العالي.

في هذا العام الحاسم في تاريخ مصر والمنطقة عام 1956 وقبل شهرين فقط من إعلان تأميم قناة السويس، تم الإعلان عن اعتراف مصر بالصين الشعبية وتبادل العلاقات الدبلوماسية معها في 30 مايو 1956 لتدشن مرحلة جديدة من تاريخ المنطقة والعالم الثالث، فقد كانت مصر أول دولة عربية وإسلامية تخطو هذه الخطوة في تحد سافر للهيمنة الاستعمارية، وفي إعلان عن مرحلة جديدة كان لها أثرها بعد ذلك.

مع توالي نجاح حركات التحرر العالمي واستقلال الدول الإفريقية والآسيوية وامتلاكها قرارها، ووجود الصين في قلب حركة دول العالم الثالث. الذي غادرته بعد ذلك ـ اقتصاديا ـ لتصبح الآن على مرمى البصر من أن تكون القوة الاقتصادية الأولى في العالم.

في العام الستين لهذه المناسبة التاريخية يأتي الرئيس الصيني في زيارة مهمة للمنطقة، تتم في ظروف بالغة الدقة للعالم كله، يزور مصر والسعودية ويزور أيضا إيران.

وبالطبع فإن الاقتصاد هو اللغة الأساسية التي تجيدها الصين، والموضوع الرئيسي في أي مباحثات لها، خاصة مع التطورات الاقتصادية التي يمر بها العالم كله، وحيث تحتل الصين مرتبة متقدمة في العوامل المتحكمة في هذه التطورات.

لكن الأمر يختلف هذه المرة، فالصين تتحرك نحو المنطقة، في ظل أوضاع قلقة وحروب محلية وإرهاب تعرف أنه يمكن أن يضربها إذا لم يحاصر ويتم القضاء عليه.

والصين تتحرك نحو المنطقة في ظل تغييرات حاسمة في السياسة الأمريكية، ومصالحة تتم مع إيران دون الالتفات لوضع حد للتدخل الإيراني السافر في شؤون البلاد العربية. والصين تتحرك نحو المنطقة وهي تعرف أن قوتها الاقتصادية لن تظل على حالها دون ترجمتها لقوة سياسية.

خاصة ونحن في مرحلة يمر بها النظام العالمي كله في حالة سيولة، ويتجه نحو نظام متعدد الأقطاب. والصين تتحرك وهي تدرك أن أمريكا تعمل على أن تتفرغ لمنافسة تراها مصيرية في آسيا حيث يتحدد النفوذ الصيني، وتنمو الهند، وتخشى واشنطن من لقاء يضم القوى الأساسية الآسيوية مع قوة روسيا.

في ظل ذلك كله تحاول الصين ـ ولأول مرة ـ أن تكون لها رؤية متكاملة تمكنية نحو المنطقة، وتطمح في تقديم نموذج للتعاون الاقتصادي الذي لا يتم لمصلحة طرف مستغل وعلى حساب أطراف محتاجة! وتنشئ بنكا جديدا لهذا الغرض مع الدول الآسيوية والنامية من المؤكد أن تزداد مكانته في المستقبل.

الحضور الصيني ينبهنا إلى أننا سنظل في قلب الصراع العالمي والإقليمي. وأن علينا أن نجمع كل ما بأيدينا من أوراق القوة الاقتصادية والسياسية وغيرها لنكون طرفا فاعلا في تقرير مصير المنطقة، وطرفاً وحيداً في تقرير مصيرنا كعرب، وفي بناء تحالفاتنا واختيار طريقنا للنهوض مما نحن فيه.

الصين خرجت من قوقعتها الاقتصادية لأنها تدرك أنه دون ترجمة قوتها الاقتصادية لنفوذ سياسي وثقافي فإنها ستخسر المعركة، فهل ندرك نحن أن ما بدأناه بتعاون السعودية ومصر والإمارات الذي أنقذ مصر من حكم الإخوان الفاشي وأنقذ اليمن من الوقوع في أسر ملالي إيران، ويعمل لإنقاذ العراق وسوريا وليبيا.. هذا التعاون لا بد أن يتحول إلى أسس لرؤية عربية شاملة تكون طرفاً أساسياً في تقرير مصير المنطقة.

Email