ماذا فعل الانفتاح والتضخم والهجرة بالثقافة؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

كان التحول في المشهد الثقافي ابتداء من منتصف السبعينيات مذهلاً بوضوحه ووضوح أسبابه. فكما أن من السهل تفسير التحول الثقافي بعد ثورة 1952. بما طرأ من تغير على سياسية الدولة الاجتماعية والخارجية، فإن الانقلاب على هذه السياسة على يد السادات، أحدث تصدعاً في بنيان حياتنا الثقافية.

من أول علامات هذا التحول، مقال كتبه يوسف إدريس في جريدة الأهرام في منتصف السبعينيات، يفسر فيه توقفه عن كتابة القصة القصيرة، وتحوله إلى المقال السياسي (بعد أن كان ألمع كتاب القصة القصيرة في الخمسينيات والستينيات)، إذ تساءل عما ينتظره الناس من رجل يرى بيته يحترق. هل يتصورون أن من الممكن أن يجلس في هذه الحالة ليكتب قصة؟.

كان هذا الوقت (منتصف السبعينيات)، هو الذي ظهر فيه التحول عن سياسات إعادة توزيع الدخل لصالح الطبقات الفقيرة، والتهاون في حماية القطاع العام، وتدليل رأس المال الأجنبي، والسماح لرأس المال المحلي بالسيطرة على الممسكين بالسلطة. كما بدأ في هذا الوقت، التنكر للقومية العربية، بل والاستهزاء ببقية العرب، ورفع شعارات السلام مع إسرائيل على حساب القضية الفلسطينية، وبداية علاقة التبعية للولايات المتحدة والمؤسسات المالية الدولية.

لقد أطلق على بعض جوانب هذا التحول اسم «الانفتاح»، ومع الانفتاح، جاء التضخم الجامح، أي الارتفاع الكبير والمستمر في الأسعار، وقد قال الاقتصادي الإنجليزي مينارد كينز مرة، أنه لا شيء يمكن أن يدمر حضارة أي مجتمع مثل التضخم،..

وقد حدث شيء شبيه بهذا للثقافة المصرية، لقد أضعف التضخم بشدة من قيمة الجهد الإنساني، ورفع من قيمة الثراء على حساب قيمة العمل، وأعلى من شأن الشطارة على حساب الأخلاق. وأصاب التضخم الناس بالخوف من المستقبل، على أنفسهم وأولادهم، فوجهوا اهتمامهم إلى ما يمكن أن يدر عليهم من دخل في المستقبل، أياً كان مصدر هذا الدخل.

لم يكن هذا فقط عصر التضخم، بل كان أيضاً عصر الهجرة، . فالتضخم ساعد على الهجرة، والنقود التي أرسلها المهاجرون ساعدت على استمرار التضخم، ولكن الهجرة لم تكن فقط لأسباب اقتصادية، بل ساعد عليها أيضاً التحول في المناخ السياسي والاجتماعي. لقد شملت الهجرة كثيرين من المثقفين المصريين، الذين كرهوا السياسات الجديدة، وما أدت إليه من تضاؤل الآمال في حدوث نهضة عامة في مصر.

سافر أحمد بهاء الدين، الصحافي المرموق، والذي احتل مركز رئيس مجلس إدارة أهم جريدة في مصر، ليرأس تحرير مجلة شهرية كويتية، وهاجر أدباء ومثقفون مرموقون إلى باريس، مثل محمود المعلم وعبد المعطى حجازي، وذهب أحمد عباس صالح وغيره إلى بغداد، هرباً من المناخ نفسه.. إلخ.

لم يكن غريباً أن يشتد أيضاً، مع ابتداء هذه الفترة، ساعد الخطاب اللا عقلاني في تفسير الدين، في وسائل الإعلام، وفي الكتب المباعة على الأرصفة، وفي المدارس على السواء. كان بعضها يثير الفتنة الطائفية، ويغذي الاعتقاد في الخرافات.

ولسبب ما وجد، المسؤولون عن الإعلام في هذه الفترة، فائدة لهم في نشر هذا النوع من الأفكار (مثلما يفيدهم تشجيع مباريات كرة القدم). ولم يكن غريباً أيضاً أن يصيب اللغة العربية المستخدمة في وسائل الإعلام، تدهور واضح، وأن يزيد من الميل لاستخدام العامية، ولإقحام الألفاظ الأجنبية في الكتابة والحديث.

سمعنا أيضاً في ذلك الوقت، أن كمال الطويل، المؤلف الموسيقي الموهوب، قد هجر التلحين واشتغل بالتجارة، ولم يعد إلى التلحين إلا بعد سنوات كثيرة، وقل إنتاجه بشدة، كما انخفض إنتاج باقي الملحنين الكبار، وكان تورط الملحن الكبير بليغ حمدي في حادثة جنائية عبثية أيضاً، قضى بعدها سنوات في الخارج..

وبدا وكأن قريحته قد نضبت منذ ذلك الحين، حتى وفاته. أما الباحث الموهوب، جمال حمدان، فقد اعتكف في بيته، بعد أن كتب الجزء الثالث من (شخصية مصر)، وأغلق على نفسه الباب، وقيل إنه لم يكن يفتحه حتى لأصدقائه. اتجه بعض الفنانين الكبار إلى استخدام فنهم في ما يدر الدخل، بصرف النظر عن نوع العمل ومدى فائدته، ولا أظن أن من الصعب تفسير الوفاة المفاجئة لصلاح جاهين، أو صلاح عبد الصبور، في إطار هذا المناخ العام.

هاجر أيضاً في تلك الفترة إلى دول الخليج، كثير من أساتذة الجامعات المصرية الكبار، حيث قنعوا بالقيام بأعمال قليلة الإنتاجية، بالمقارنة بمواهبهم وقدراتهم على العطاء.

من اللافت للنظر أيضاً، كيف تحول بعض الكتاب الموهوبين إلى مغازلة التيار الديني الصاعد، وقد راعهم ما حصل عليه هذا التيار من شعبية متزايدة (ربما ساهم فيها أيضاً تزايد الصعوبات اليومية بتأثير ارتفاع معدل التضخم). واعتقد بعضهم أنه لا يمكن إحداث أي تغير مهم في السياسة، ما لم يكن مدعوماً بهذا التيار، فانضموا إليه، ظانين أن بإمكانهم قيادته وتوجهيه إلى الاتجاه الصحيح، فإذا بهم يضطرون للانحناء له، وسحبهم التيار إلى حيث يريد أصحابه الأصليون.

في هذه الفترة، بزغت ظاهرة مدهشة، تعبيراً عن الغضب من هذا المناخ العام. فقد لمع اسمان كونا ثنائياً رائعاً، هما أحمد فؤاد نجم، مؤلفاً لأشعار وأغانٍ باللغة العامية، والشيخ إمام، ملحناً ومغنياً.

وعندما نتذكر ما قام به هذان الموهوبان في تلك الفترة، ونوع إنتاجهما، والطريقة التي انتشر بها بين الناس، دون اعتماد على إذاعة أو تليفزيون، بل بالطواف بمنازل المثقفين، وإلقاء الأشعار والغناء في ندوات واجتماعات المعارضين السياسيين والمثقفين المبتئسين..

فضلاً عما تميز به هذا الإنتاج من بساطة وتلقائية، جعلاه ينفذ فوراً إلى القلب، عندما نتذكر ذلك، يخطر بالذهن أن هذه الظاهرة (ظاهرة نجم وإمام)، تكاد أن تكون شيئاً حتمياً في هذه الفترة، كرد فعل للتدهور العام في المناخ السياسي والاجتماعي والثقافي.

***

بانتهاء السبعينيات، ثار الأمل في نفوس كثيرين من المثقفين في أن يأتي عهد حسنى مبارك بشيء مختلف عما ساد في عهد سلفه، ولكن سرعان ما تبين أن الثمانينيات لن تكون إلا امتداداً لما كان عليه الحال في العقد السابق، إذ رغم الإفراج عمن اعتقلهم السادات..

والسماح من جديد بظهور صحف المعارضة، لم يحدث إلى السياسة الخارجية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، ما يعيد الناس الأمل في حدوث نهضة حقيقية. وقد انعكست خيبة الأمل هذه التي أصابت المثقفين، في استمرار ذبول الإنتاج الثقافي، وزاد ذبوله في العشرين سنة التالية، ما سنتناوله في مقال قادم.

 

Email