في ذكرى أكتوبر.. وفي انتظاره!

ت + ت - الحجم الطبيعي

ما أحوجنا في هذه الظروف التي تمر بها أمتنا العربية، إلى تذكر حرب أكتوبر المجيدة التي تحل ذكراها هذه الأيام، والاحتفاء بها، والعودة لدروسها، ووضعها أمام أجيال جديدة لم تعاصرها لكي تدرك قدرة هذه الأمة على قهر المستحيل.

وربما كان أعظم ما في أكتوبر العظيم هو أننا بدأنا من نقطة الصفر عسكرياً، بعد هزيمة 1967 التي كانت كفيلة بقصم ظهر أعتى الشعوب، وهو ما تصوره موشى ديان يومها، حين قال إنه جالس بجوار الهاتف ينتظر مكالمة الاستسلام من عبد الناصر، فإذا به يفاجأ بعد أيام قليلة بهزيمة قواته بعد معركة شرسة في »رأس العش«، وبعدها كانت معركة إغراق المدمرة »إيلات« في أكتوبر 67، وتتوالى المعارك حتى تبدأ حرب الاستنزاف التي استمرت حتى قبل وفاة عبد الناصر بأسابيع، ولم تتوقف إلا بعد أن أدركت إسرائيل (ومن ورائها أميركا) أن موازين القوى قد تغيرت، وبعد أن قبل عبد الناصر مبادرة روجرز، وهو يعرف أنها لن تؤدي إلى شيء، وإنما ليستغلها أعظم استغلال بتحريك حائط الصواريخ المصرية إلى شاطئ القناة ليكون بعد ذلك هو صمام الأمان الذي يحمي قوات العبور في حرب أكتوبر.

وكانت حرب أكتوبر درساً بليغاً في التنسيق العسكري بين مصر وسوريا ثم مع العديد من الدول العربية الشقيقة التي لم تتأخر عن المساعدة العسكرية بكل الوجوه لتفاجأ إسرائيل بأنها تحارب على جبهتين، ولتصل الأمور فيها لحافة الانهيار لولا التدخل العسكري الأميركي وفتح مخازن السلاح الأميركية أمام إسرائيل بلا حساب، ووضع كل إمكاناتها العسكرية من أساطيل بحرية وجوية وقواعد بالمنطقة في خدمة الجهد الحربي الإسرائيلي تفادياً للهزيمة المروعة.

وكانت حرب أكتوبر درساً لنا وللعالم كله.. بأننا نستطيع حين نقرر ونتحد. كانوا يقولون إن عبور قناة السويس يعني استشهاد مئات الآلاف من جنودنا، فعبرناه بلا خسائر تقريباً. وكانوا يتوهمون أننا غير قادرين على التعامل مع السلاح الحديث فكانت »أكتوبر« هي أولى الحروب الإلكترونية التي لقنا فيها العدو أقسى الدروس. وكانوا يراهنون على أننا لن نستطيع القيام بعد هزيمتنا في 67 إلا بعد أعوام طويلة، فكان جيش المليون مقاتل جاهزاً للعبور بعد ثلاث سنوات.

وكانت حرب أكتوبر هي الحرب التي دخل فيها البترول العربي شريكاً للسلاح العربي في معركة تحرير الأرض واسترداد الكرامة، ولا شك أن موقف مؤسس الدولة الشيخ زايد، رحمه الله، في هذه الشأن سيبقى خالداً على الدوام، وأن كلماته بشأن الدم العربي الذي هو أغلى من البترول ومن كل الثروات ستظل دستوراً لأجيال لا بد أن تعرف الفارق بين زعماء وضعوا كل إمكانات بلادهم في خدمة أوطانهم وعروبتهم، وبين حكام بددوا كل شيء أو انصاعوا لمخططات الأعداء، أو تنكروا لعروبتهم فلم يكن لهم إلا سوء المصير!

ولا أريد أن أنكأ جراحاً نحتاج لأن تندمل. لكن الوفاء لأكتوبر وللتاريخ يقول إننا أضعنا الكثير من دروس أكتوبر في السنوات التالية، بينما كان أعداؤنا على الجانب الآخر لا ينسون ما جرى، ويعملون بما قاله هنري كيسنجر بعد الحرب إن ما حدث في أكتوبر لا ينبغي أن يتكرر!

وعلى مدى أربعين عاماً لم يتركوا سلاحاً لم يجربوه ضدنا، زرعوا الفتنة بين الدول العربية وقسموها إلى معسكرات. ساندوا الاستبداد حتى أفسد كل شيء، ثم زرعوا الفتنة والحروب الداخلية في كل أنحاء العالم العربي، ثم تحالفوا مع الإرهاب الأسود المتاجر بالدين، وعقدوا الصفقات مع كل من يعادي العروبة، ووضعوا الخرائط الجديدة لتقسيم الوطن العربي من جديد.

وتأتي ذكرى أكتوبر هذا العام، والعالم العربي يمر بواحدة من أخطر مراحل تاريخه الحديث، الإرهاب الذي تم زرعه في بلادنا يتوحش. والقوى الإقليمية غير العربية تريد مد نفوذها إلى أقصى ما تستطيع من أرض عربية، والدول الكبرى تتصارع في سماء سوريا والعراق وتترك الأرض للدواعش ولإيران وتركيا، بينما إسرائيل تمضي في التهام الأرض الفلسطينية وتهويد القدس وتهديد الأقصى وتصفية القضية التي كانت ذات يوم قضية كل عربي ومسلم ومناصر للحرية، قبل أن يداهمنا هؤلاء الذين لم يتوقفوا عن الهتاف بأنهم »على القدس رايحين.. شهداء بالملايين« ثم لا نجدهم إلا وهم يذبحون المسلمين في العراق وسوريا وليبيا، ويقاتلون جيش مصر وهو يذود عن سيناء التي حررها بأغلى الدماء، ويعبثون بأمن الوطن العربي ثم يعلن خليفتهم المزعوم أن القدس وفلسطين ليستا في أولوياتهم. ولن تكون أبداً لأن العملاء أمثالهم يعرفون حدود المهام المكلفين بها، ويدركون أن مهمتهم تخريب الوطن العربي.

ومع ذلك كله فإن ذكرى »أكتوبر« تأتي ونحن أكثر يقيناً بقدرتنا على تجاوز المحنة، وأكثر ثقة بأن قوى الظلام لا يمكن أن تنتصر، وأن من يتباهون برفع أعلامهم في عواصم عربية سيكون عليهم أن يدافعوا عن أعلامهم في عواصمهم.

الذين صلوا شكراً لله على هزيمة العرب في 1967 لا يمكن أن ينتصروا الآن! والذين حققوا المستحيل وانتصروا في 73 قادرون على تكرار انتصارهم! والذين تآمروا على مدى أربعين عاماً حتى لا يتكرر أكتوبر، سيكتشفون أن ما يفعله الآن التحالف العربي الصامد بقيادة مصر والسعودية والإمارات هو البشير بأكتوبر الجديد.

Email