الضحايا يأتون في صيغة نسائم

ت + ت - الحجم الطبيعي

سأل والد أحد ضحايا التفجير الإرهابي الهمجي، الذي راح ضحيته العشرات من السياح، والأهالي في جزيرة بالي الإندونيسية عام 2002.

 سأله: كيف تستطيع أن تنام؟ فأنا لم أذق طعم النوم منذ اللحظة التي أفقدتني فيها ولدي! كانت تلك جرأة أن يقابل الضحية قاتله، ومن مزيد الجرأة أن يحاوره. فللأحياء أيضاً نصيب كبير من ألم الضحايا الأموات، وألمهم باق ما دام أمواتهم الضحايا لا يعودون، والألم عند الأحياء يتضاعف عندما يتواجهون مع القاتل.

بعد ذهاب الضحايا موتى بلا سبب أو ذنب، سوى تلك المصادفة القاسية، التي قادتهم إلى وقت وزمن الجريمة، ما الذي يدفعنا كوننا أحياء إلى مواجهة الألم وتشخيصه أمامنا، وما الذي يجعلنا كوننا بشراً نَسّائين نرغب بنبش الماضي واستعادة الحزن الكبير؟ أهي محاولة لملامسة الحد الفاصل بين الحياة والموت وبين الكره والصفح والبدء من جديد والتحول في علاقة الأحياء مع غريمهم قاتل أحبتهم؟ أهو الأمل في استعادة اللحظة الصادمة القدرية في ظروف نتحكم بها ونرسمها زماناً ومكاناً وظرفاً لنتخلص من عبء الفقدان المفاجئ وغير المتوقع الذي أصاب الضحايا؟ أم هو اعتذار الأحياء من أحبتهم الموتى، الذين لم يوفوهم حقهم بأن يمنعوا عنهم الموت المباغت في غير موعده؟ فكانت المطالبة بالمواجهة بين القاتل وأقارب الضحايا، وكان هذا اللقاء المتجهم المتوتر البركاني بين أولئك الذين أخطأهم الموت من أهالي القتلى وبين القاتل الجاهل الأعمى مسلوب الرحمة، الذي أوتي به بعد 13 عاماً ليقدم اعتذاره عن فعلته الشنيعة.

شاهدت الفيديو الذي يوثق لهذا اللقاء الغريب والجريء الذي جرى في أحد المراكز الحكومية الإندونيسية، والذي جاء على ما يبدو بناء على طلب أهالي الضحايا، الذين فقدوا الفرح وأحبتهم. يبدو أن اللقاء تم بناء على طلب من الأهالي لإبداء اللوم والحنق والغضب بكل أشكاله تجاهه، وقد شحذ بعضهم لسانه وعقله وقلبه، بل وقبضة يده انتقاماً وثأراً من الفاعل القاتل.

تمت المواجهة، حيث كان عدد من أهالي الضحايا في استقبال الجاني، دخل القاتل مشرعاً يده للمصافحة، ووجهه بلا تعبير إلا ما أفصحت به عيناه من الفراغ والجهل، وعدم تقدير حجم المأساة التي نظمها ونفذها. كانت نظراته الجامدة تتفحص ألم الضحايا من دون أي تعبير يوشي بأنه على قدر من الوعي والتفاعل.

جمود ما بعده جمود، أما الأهالي فاقدو الفرح، فقد كانت نظراتهم مفعمة بالتعبير عن مشاعر الألم والغصة واللوم المتدفق. بعضهم رفض المصافحة، والآخر استحضر الغائب الأبدي وأجهش بالبكاء، والآخر نظر إلى القاتل بشفقة وحزن وعتاب عميق، والآخر تطاير من عينيه الشرر والغضب لوماً ومساءلة على فعلته الشنيعة.

هل القاتل بعد هذا اللقاء هو ذاته كما كان قبله، وهل أهالي الضحايا هم ذاتهم من بعده. حتماً أن شيئاً ما تغير، أهمها أن الأهالي شاركوا ضحاياهم أهم أسباب الغياب، وهو القاتل، بل أنهم عرفوا أكثر مما عرفه أحباؤهم الغائبون، إذ واجهوا القاتل، وهو ما لم يسمح الموت المجاني المفاجئ للقتلى أن يقابلوا قاتلهم قبل لحظات من فعلته.

إنها الحلقة المفقودة التي ستجعل الأهالي أكثر تحكماً ومعرفة بالمصيبة وواقعيتها وأبعادها. إن مواجهة القاتل هي أهم مفاصل التحكم بالأثر النفسي والاجتماعي والإنساني لأي جريمة، فما بالك إذا كانت جماعية بفعل إرهابي.

وقد يكون هذا اللقاء إحدى أدوات الشفاء لأهالي الضحايا وأولى عتبات السكينة والهدوء، وإن كانت مؤلمة وجارحة وقاسية. إن اللقاء بين أهل الضحية والقاتل يعلي يد الضحية فوق يد الغدر والقتل والجهل.

أما القاتل، فسوف يعرف شيئاً، إن استطاع أن يعرف، أن ألم الأحياء يفوق ألم الضحايا الأموات، وأن دائرة إدراكه، إن استطاع أن يدرك، سوف تتسع وتتسع مع كل دمعة أم أو غضب أب، أو ارتعاشة يد ترددت في أن تصافح قاتل والدها. وسيحاصره الندم والألم والموت كلما استعادت ذاكرته هذه المواجهة.

إن في هذا النوع من اللقاءات الحاسمة الذي يجمع بين القاتل وضحاياه لهو عقاب مؤلم وغائر للقاتل بقدر ما وفاء للضحايا وشفاء لأهاليهم. وكأنها عباءة الصفح عن الذات أولاً يرتديها أهالي الضحايا، بعد أن ينزعوا عنهم رداء الملامة والحزن. الضحايا لا يعودون، ولكنهم يفاجئوننا فيأتون خلسة نسائم، ويذهبون من دون ضجيج، وقد يأتون في أحلامنا أو في لحظات الصفو بعد النعاس وقبل الاستيقاظ، وهي الحالات التي يتجسد فيها الغائبون أمامنا، حتماً سيأتون نسائم ما دامت قلوبنا نابضة بحبهم وذكرياتهم.

 

* مستشار إعلامي

Email