هذا ما قاله زايد.. وفعله

ت + ت - الحجم الطبيعي

«في أحد الأيام، عندما كنت حاكما للعين في المنطقة الشرقية، كنت أتمشى في طرقات العين، وكان معي في هذه الجولة أحد الأصدقاء، وهو ضابط إنجليزي كبير، وأحسست وأنا أرى الناس والبيوت والجبال والوديان، أن حضارة هذا البلد تكاد تصرخ فيّ، وتدفعني دفعا إلى بناء دولة عصرية حديثة.

هنا أخذت أشير وكأنني في حلم روحي عذب؛ هنا سيقوم مركز زراعي ضخم، وهنا منطقة صناعية، وهنا محطة كبيرة لتوليد الكهرباء، وهناك في أبوظبي سننشئ ميناء في هذه المنطقة بالتحديد، أما المطار فسيكون في تلك النقطة، وهنا جامعة، وهنا المستشفى، وهنا قوة الدفاع، وهكذا وهكذا. وضحك صاحبي وقال لي: دعك من أحلام اليقظة.

ومرت الأيام، ونسيت الحديث كله، حتى جاء في يوم الصديق نفسه بعد أكثر من عشرين سنة ليزورني بعد أن اعتزل الخدمة في بلاده، وكان مندهشا للقريتين اللتين رآهما في ذلك الوقت كيف أصبحتا الآن، وقال لي: هل تذكر ذلك الحديث الغريب؟ إن كل شيء عينته بُنِيَ في المكان ذاته الذي حددته؛ المصانع والكهرباء والمستشفى، حتى الدفاع، كل هذا تحقق ولم تكن أحلام يقظة».

هذه القصة على لسان المغفور له بإذن الله تعالى، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، رواها الصحفي الهندي «كرانجيا»، مالك ورئيس تحرير جريدة «بليتز» الهندية، في حديث أجراه مع الشيخ زايد، رحمه الله، نشره في 4 يونيو 1970، وعلق عليها قائلا: «إن هذه القصة حدثت قبل أن يحلم أحد أن هناك بترولا سيتدفق في هذه المنطقة، أو أن الشيخ زايد سيكون حاكما لتلك البلاد. إن مثل هذه الحالات لا تحدث إلا للزعماء الملهمين، وزايد فيه الكثير من صفات الزعيم الملهم».

وقد أعاد نشر الحديث الباحث الإماراتي حمدان الدرعي، في كتابه «زايد.. سيرة الأمجاد وفخر الأجداد» الذي جمع فيه عددا من الأحاديث، أدلى بها الشيخ زايد، طيب الله ثراه، لعدد من وسائل الإعلام العربية والأجنبية، قبل قيام دولة الإمارات العربية المتحدة، وصعودها الذي أبهر العالم، وجعله يقف إجلالا واحتراما لمؤسسها الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، هذا القائد العظيم الذي تحل اليوم ذكرى وفاته، مجددة وفاء شعب الإمارات لقائده المؤسس، مؤكدة محبة هذا الشعب العميقة له، كما لم يحب شعبٌ قائدا ومؤسسا ملهما، لم يقتصر دوره على البناء في حياته فقط، وإنما استمر بعد وفاته، وسيبقى متصلا.

إن المتأمل لشخصية الشيخ زايد، رحمه الله، من خلال أحاديثه تلك، يجد أمامه نموذجا فريدا للقيادة، قلما يتكرر عبر التاريخ، فهو قائد يستلهم الماضي، ويقرأ الحاضر، ويستشرف المستقبل. تتجلى ملامح شخصيته، خلال تلك الأحاديث، في نقاط عدة؛ أبرزها أنه كان صريحا ومباشرا، لا يستخدم الألفاظ المنمقة والبراقة، ولا يزيف الواقع، ولا يتلاعب بالكلمات، ما يقوله داخل الغرف المغلقة هو نفسه الذي يقوله خارجها، لا يحب المناورات السياسية، فالسياسة عنده تطبيق للمبدأ الذي ينادي به، وأي انفصال بين الأقوال والأفعال عنده، ليس سوى خداع وكذب ونفاق.

قال زايد، طيب الله ثراه، في حديث لمجلة «آخر ساعة» المصرية نشرته في 21 أغسطس 1968: «انا مؤمن بأن قوة الإمارات تكمن في اتحادها وتعاونها بإخلاص، وهذا الإيمان نفسه تلمسه بنفسك عند جميع أفراد شعوبها وتتأكد من انعقاد رغبتهم عليه». ونفذ زايد، رحمه الله، ما قاله فوحّد الإمارات، وصنع منها دولة ناجحة، أصبحت اليوم مضرب المثل، ليس في النهضة والتقدم فقط، وإنما في التفاف شعبها حول قيادته، وتماسك نسيجها الاجتماعي، وقوة لحمتها الوطنية.

قال زايد، طيب الله ثراه، في حديث إلى وفد تجاري كويتي زائر في 14 فبراير 1970: «لقد رأيتم ولمستم مقدار ما وصلت إليه بلادنا من نهضة شاملة في فترة قصيرة من الزمن، فقد أنشأنا المستشفيات والمدارس والشوارع والمباني والجسور. كل هذا من أجل الشعب، وإلا فما قيمة المال إذا لم يسخر لخدمة الشعب؟». وأثبت زايد، رحمه الله، بالفعل أنه لا يرى قيمة حقيقية للمال إذا لم يستخدمه لخدمة الشعب، حتى أصبح شعب دولة الإمارات اليوم، أسعد شعوب العالم.

قال زايد، طيب الله ثراه، في حديث لبعثة التلفزيون البريطاني في 29 ديسمبر 1971: «تعلمنا من هذه الثروة أن نبني بلدنا بالعلم والثقافة، وتربية جيل جديد متعلم. إن تعليم الناس وتثقيفهم في حد ذاته ثروة كبيرة نعتز بها، فالعلم كالثروة، ونحن نبني المستقبل على أساس علمي». وأثبت زايد، رحمه الله، أن أفضل استثمار هو في الإنسان، فعمل على بناء الإنسان الإماراتي الذي أصبح اليوم أكبر منجز من إنجازات زايد.

قال زايد، طيب الله ثراه، في حديث لمجلة «المصور» المصرية نشرته في 2 ديسمبر 1971: «هوايتي الشخصية شيء واحد، هو أن أغرس وأبني، وأجني الثمار». وغرس زايد، رحمه الله، في نفوس أبنائه وشعبه هذه الهواية، حتى غدت دولة الإمارات أكبر حقل للغرس والبناء، وأفضل نموذج للدول العصرية الناهضة.

كتب كثيرة ألفت عن الشيخ زايد، طيب الله ثراه، لكن الكتاب الأهم عنه لم يؤلف بعد، وهو كتاب «عبقرية زايد»؛ هذا البدوي القادم من عمق الصحراء الذي استطاع أن يبهر العالم بأقواله وأفعاله، ويسجل اسمه في صدارة القادة العظماء.

رحم الله زايد، وأجزل له العطاء، بقدر ما قال وفعل وأنجز.

Email