لا تجرحوا الكويت

ت + ت - الحجم الطبيعي

كانت في أول عمرها، وكنت أيضاً في أول عمري المهني. بيوت من طابقين ومساحة صغيرة لحديقة ومرآب لسيارة. وزعتها حكومة الكويت آنذاك، أعني عام 1975، على ذوي الدخل المحدود. مدينة كاملة المواصفات متكاملة الخدمات، حدائق، مخابز، أسواق تشغلها الدولة يسمونها جمعيات تبيع بأسعار رخيصة، ليظل المواطن والمقيم غالياً مرفوع الكرامة. وطبعاً وأولاً، مستوصفات تعالج بالمجان ومدارس على مستوى عال من الرقي.

كنا في مدرسة الرقة المتوسطة مدرسون من معظم الجنسيات العربية، الكويتية والمصرية والفلسطينية والأردنية والسورية والتونسية والعراقية، وربما غيرها أيضاً. كنا عرباً في الكويت بلاد العرب. كان ذاك شعار دولة الكويت، وكان نبض شعبها ومحور سياستها.

لا ينسى التاريخ العربي للكويت، مد يد العون للدول العربية مالياً. فلم يقصر الصندوق الكويتي للتنمية بمساعدة دول محتاجة، سواء من خلال قروض ميسرة أو هبات أو تمويل مشاريع تنموية أو بناء مدارس ومستشفيات، بما في ذلك دول وإمارات خليجية، لم تكن قد حصلت على استقلالها بعد من الاحتلال البريطاني، وما زال المستشفى الكويتي قائماً حتى اليوم في الشارقة.

كما لا ينسى التاريخ أن الكويت كانت السباقة إلى إطفاء أي حريق عربي وفي أي مكان. ففي فتنة أيلول 1970، لعبت الكويت دوراً قومياً عربياً في إنهاء النزيف من الجسد الواحد الفلسطيني الأردني، وقد خرج ياسر عرفات من عمّان برفقة ولي عهد الكويت آنذاك، الشيخ سعد العبد الله.

كما لا ينسى أن وزير خارجية الكويت آنذاك، الأمير الحالي الشيخ صباح الأحمد، كان مهندس اتفاق الطائف الذي وضع حداً للحرب الأهلية اللبنانية التي استمرت ست عشرة سنة، وأنهكت البلد، طوائفه واقتصاده وحريته وثقافته، جبله وجنوبه وشماله وبيروته.

أقول، بل أتذكر هذا التاريخ الذي كنت شاهداً عليه، وأنا أشاهد التفجير الإجرامي الذي استهدف مسجد الإمام الصادق بمنطقة الصوابر في الكويت. حين كان المجمع قيد الإنشاء، كنت هناك، ربما على ما أتذكر في عام 1975. هو أيضاً عبارة عن شقق سكنية بنتها حكومة الكويت لتكون في متناول الكويتيين بسعر منخفض وعلى شكل قروض طويلة الأمد، وربما ألغي ما تبقى من تلك القروض في مناسبة وطنية.

في ذاك الزمن، لم يكن ثمة فرق بين كويتي وكويتي، لا سني ولا شيعي، حضري وبدوي، الغترة البيضاء تغطي الرأس المرفوع، والدشداشة بلون قلوب أبناء الكويت. ولم يكن ثمة تمييز بين عربي وعربي مقيم عل أرض الكويت.

الكل يبني هذه الجامعة العربية الحقيقية، والكل يأكل من خير البلد ويشرب من نبع عروبي صاف. لا فرق بين السالمية والعديلية والشامية والجهراء، بين المرقاب وشرق، الفحيحيل والأحمدي، خيطان والصباحية، بيان وسلوى والجابرية، فلم تكونا قد ولدتا بعد..

ولم تكن ثمة أجيال قد ولدت، لكن كل من ولد في ما بعد، فقد حمل جينات الأجداد العروبيين، وظل جار البحر والغوص واللؤلؤ، لم يفارق صوت النهّام البحر، ولا «يا ماااال ياااامال » ذاكرة الكويتيين.

هم أنفسهم الكويتيون الذين خرجوا يشيعون ضحايا العمل الإرهابي في مسجد الإمام الصادق، هاتفين جميعاً «كويتيون سنّة وشيعة... هذا الوطن ما نبيعه». العمل الإجرامي ضد الكويت، كان يهدف من ضمن ما يهدف، إلى إحداث الوقيعة وإيقاع الفتنة في صفوف الكويتيين. ردة فعل الكويتيين على الجريمة، أعطت نتائج عكسية تماماً، لقد توحدوا أكثر من أي وقت مضى.

إن مناخ الحريات والديمقراطية النسبية التي تعيشها هذه الدولة الخليجية منذ عقود متراكمة من السنين، سمحت بخلق وعي متقدم لدى الكافة، وعززت انصهار الكويتيين وتوحدهم حول كيانهم، وقد نجح الغزو العراقي للكويت، في توليد «هوية وطنية جماعة وجمعية» للكويتيين، الذين استيقظوا ذات صباح، فوجودا أنفسهم «عراقيين»، ومحافظة ملحقة بالدولة الجارة.

الكويت من أوائل الدول العربية التي شهدت انتخابات وبرلماناً في عهد أبو الدستور الشيخ عبد الله السالم. فيها حركة قوميين عرب تاريخية، قادها أحد مؤسسي الحركة في بيروت، الدكتور أحمد الخطيب، وفي الكويت تيارات متعددة. صحيح أنها ليست منتظمة في أحزاب سياسية، والأهم «ديوانياتها»..

. هذا الوعي المبكر، سيساعد الكويت والكويتيين على مواجهة تحدي الغلو والإرهاب صفاً واحداً. وبوجود برلمان قوي وديوانيات مؤثرة وجمعيات وتشكيلات متنوعة، بوجود إعلام حر ومستقل نسبياً، تبدو الكويت مرشحة لاجتياز المحنة. هذه الصورة لا ترضي جماعات «الفوضى الخلاقة»، ولا ترضي أصحاب مشاريع «الجهاد العالمي»، الذين لا ينتعشون إلا في الخرائب، ولا يجدون مطرحاً لأنفسهم إلا على أنقاض الدول والمجتمعات.

كما توحدوا في مواجهة الغزو والبحر والصحراء، سيتوحد الكويتيون في مواجهة الفتنة، وتبقى لؤلؤتهم الأجمل.

 

Email