غسيل سياسات

ت + ت - الحجم الطبيعي

أثناء باكورة زياراته إلى إسرائيل بعد تنصيبه أول رئيس لدولة جنوب السودان المستقلة، قال سيلفاكير ميارديت إنه ما كان لدولته أن تقوم لولا الدعم الإسرائيلي. الرجل لم يكن مبالغاً أو مجاملاً، فإسرائيل كانت لزهاء خمسة عقود طليعة القوى الإقليمية والدولية الداعية، بالقول والتحريض والعاملة بالفعل والتطبيق، إلى انفصال الجنوب عن الشمال.

ظواهر من قبيل اندلاع الحروب الأهلية في الدول، أو تصدع بعض الدول أو انقسامها على نفسها، عادة ما تكون أخباراً سيئة ؛ تحمل نذر الشؤم بالنسبة للمحيط الإقليمي الذي تنتشر فيه، لكن أطلال هذه الظواهر وتفشيها في الرحاب الإقليمية العربية، تمثل عند إسرائيل أخباراً سارة، بل وينبغي السعي إليها وتشجيعها والسهر عليها.

مظاهر السرور الإسرائيلي عند انقسام السودان إلى سودانين، تجلت في تعجيل تل أبيب إلى الاعتراف بدولة الجنوب البازغة بعد يوم واحد على إعلانها. مثل هذه الخطوة تستحضر في ذاكرتنا الاعتراف الأميركي بإسرائيل بوتيرة اللهفة ذاتها عام 1948. وليس بلا مغزى في هذا الإطار ما ورد حرفياً في تقرير إسرائيلي يصف العلاقة مع جنوب السودان بأنها «.. غير مألوفة وتشبه علاقة الدولة الراعية بالدولة التابعة..». إنه التوصيف ذاته الذي طالما استأثرت به الصلة بين الولايات المتحدة وإسرائيل.

ضمن معالم التعامل الحميم بين إسرائيل والدولة المولودة قيصرياً في الطرف الجنوبي للوطن العربي، أنهما أبرما في وقت قياسي عدداً من اتفاقات التعاون والشراكة لم تدع مجالاً استراتيجياً أو غير استراتيجي إلا شملته، واستطردت إليه.

في ضوء هذه المعطيات تبدو غرابة احتجاجات ما تسمى بقوى «اليسار الإسرائيلي» من شيوعيين واشتراكيين وجماعات إسلامية، على مبيعات السلاح الإسرائيلي لجنوب السودان. ظهر هذا الاعتراض الغاضب في أوائل يونيو الجاري، أثناء فعاليات معرض الأسلحة في تل أبيب. وما قيل في مبررات هذا الموقف أن السلاح الإسرائيلي يستخدم في جنوب السودان لارتكاب مجازر ضد المدنيين، فيما يعد جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، فضلاً عن تشجيع عمليات الاغتصاب والترويع، وزيادة معدلات الهجرة والمهاجرين إلى دول أخرى، بما فيها إسرائيل.

هذا السياق، ينطوي على أكثر من مبرر للدهشة والاستغراب، فمن ناحية، يعلم «اليساريون الإسرائيليون» أن تغلغل حكومات دولتهم في شؤون السودان الجنوبي، بالمال والسلاح والعتاد والتدريب والاستخبار، من الحقائق البادية كشمس الظهيرة منذ أمد بعيد، ولا بد أنهم يعلمون أيضاً أن إسرائيل هي المحرض الأول على نعرة انقسام الجنوبيين وانفصالهم؛ التي أهلكت في طريقها الدامي الحرث والنسل بمئات الآلاف، فما الذي أيقظ ضمائرهم اليوم، وفيم غضبهم، تجاه استخدام السلاح الإسرائيلي في محاربة الجنوبيين بعضهم البعض؟

ثم إن إسرائيل تعد من أشهر مصدري الأسلحة إلى مناطق الصراعات الأهلية في قارات العالم القديم، فلم رقت قلوب اليساريين الإسرائيليين رأفة بالسودانيين الجنوبيين، دون المتقاتلين حتى الموت بالأسلحة الإسرائيلية في بلدان أخرى؟ هل هناك علاقة بين هذه الرقة الاستثنائية وبين الرغبة في تحسين صورة إسرائيل في « الميديا الأفريقية» بعامة، وأمام الحلفاء في جنوب السودان بخاصة، بعد أن انفضحت سريرة إسرائيل كونها تاجراً بأدوات الموت، وليس مجرد عاطف على حريات الأقوام في أفريقيا!

ومن ناحية أخرى، فإن التسليح الإسرائيلي للحرب الأهلية في جنوب السودان، يفترض أن يثير وقفة تأمل من لدن المتصارعين، ألا يلحظ هؤلاء كيف أسهم هذا السلاح في إذكاء حربهم على الشمال، ثم ها هو يسهم مجدداً في إزهاق أرواحهم وتمزيق دولتهم هم أنفسهم؟ ألا يعلمون أن السلاح لا قلب له ولا دين ولا عقل، فكيف الحال إن كانت الدولة المنتجة والمصدرة له دولة عدوانية استعمارية بالأصالة وبالإنابة؟

ندفع بهذه الاستفهامات ونحن نهمس في آذان الجنوبيين جميعاً بأن إسرائيل كانت معنية ذات حين بتغذية حربكم للانفصال عن السودان الأم، ولعلها معنية اليوم بتقطيع أوصال دولتكم الجديدة، لأنها بحكم استراتيجيتها العليا تجاه المحيط الإقليمي، وكآلية للهيمنة على هذا المحيط ، تعمل على تجزئة المجزأ وتقسيم المقسم. هذا إلى أنها تستبطن أيضاً أنه كلما ظللتم على خلافاتكم وتنازعكم، زاد احتياجكم إليها وتعلقكم بها.. وهكذا فإنها تبقى شغوفة بما يزيدكم وهناً على وهن.

Email