المساواة.. هل ما زالت تصلح هدفاً؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا بد أنى لاحظت، منذ سن مبكرة، مظاهر كثيرة للتفاوت الكبير بين أنماط الحياة، للأغنياء والفقراء في مصر. ولا بد أنى اقتنعت منذ ذلك الوقت بأننا لا بد أن نفعل شيئاً للقضاء على هذا التفاوت، أو على الأقل للتخفيف منه، على أساس أن المساواة بين البشر أفضل من اللامساواة: أفضل لزيادة الرفاهية للمجتمع ككل من ناحية، وأكثر تحقيقاً للعدالة من ناحية أخرى.

ما زلت حتى بعد تقدمي في السن، أؤمن بمزايا المساواة من الناحيتين، الرفاهية والعدالة، ولكني لا بد أن أعترف بأن نظرتي إلى قضية المساواة واللامساواة قد طرأ عليها بعض التغير، مع ظهور وانتشار تلك الظاهرة التي تعرف بـ«المجتمع الاستهلاكي»، منذ أربعين أو خمسين عاماً. إني أفهم عبارة «المجتمع الاستهلاكي» بمعنى زيادة الإقبال على السلع الترفية، وانتشار استهلاكها في البلاد الثرية أو ثم انتقالها إلينا، والميل المتزايد إلى اعتبار استهلاك هذه السلع من ضروريات الحياة (برغم أنها ليست كذلك في الحقيقية)، واعتبار الحصول عليها معياراً مهما في التمييز بين الطبقات، وعاملاً مهماً في توليد الشعور بالتعالي من جانب طبقة لأخرى، من ناحية، وبالحسد والغيظ من الناحية الأخرى.

كنت قد بدأت ألاحظ هذه الظاهرة في الستينيات من القرن الماضي، كلما كنت في زيارة لإحدى الدول الغنية، ولكني لاحظت نموها السريع منذ السبعينيات، ثم انتقالها إلى مصر مع بداية ما سمي بعصر الانفتاح. كنت في البداية أشعر بالأسف لهذه الظاهرة لأسباب ثقافية أو حضارية، سواء تعلق الأمر بالمجتمعات الغنية أو الفقيرة، ولأسباب اقتصادية أيضاً، إذ تعلق الأمر ببلادنا الفقيرة، إذ رأيت في انتشار هذه الظاهرة أحد العوامل المعطلة للتنمية الاقتصادية.

ولكن مع مرور الوقت، وتفاقم ظاهرة المجتمع الاستهلاكي، وتسربها أكثر فأكثر حتى بين صفوف الطبقات الأقل ثراء، أو المحدودة الدخل، بدأت أدرك أن لهذه الظاهرة أيضا ًمغزى آخر يتعلق بتلك القضية العتيدة التي شغلت الناس والمفكرين عبر التاريخ، وهى قضية المساواة واللامساواة.

فنلاحظ أولاً أن مشكلة اللامساواة لم تعقد مقصورة على الفرق بين التمتع بالرفاهية في جانب، وحرمان من الضروريات في الجانب الآخر، بل أصبحت تتعلق أكثر فأكثر بالتفاوت في استهلاك الطرفين لسلع مشكوك في ضروريتها أصلاً، بل ربما مشكوك حتى في نفعها. إذا كان الأمر كذلك، فإلى أي حد يجوز أن يشعر المرء بالألم أو الأسف كلما رأى هذا التفاوت؟ وإلى أي مدى يجوز التحمس بشدة للقضاء عليه؟

بعبارة أخرى، إذا كان الاستهلاك في الحالين يبدو تافهاً أو مثيراً للسخرية بدلاً من الحسد، فلماذا نريد أن يتساوى الناس فيه؟

إذا كان صحيحاً أن اللامساواة تتحول أكثر فأكثر إلى لامساواة في أمور تافهة وغير ضرورية، أو أنها قد أصبحت الآن، ولهذا السبب، أقل وطأة مما كانت، وإننا جميعاً، بمن في ذلك محدودو الدخل منا، نسهم في استمرار اللامساواة، بل نساهم في تفاقمها كلما رضينا أن ندفع أثماناً باهظة لأشياء تافهة، ألا يعني هذا أن تحقيق المساواة لم يعد هدفاً بالسعي من أجله بالدرجة نفسها؟!.

 

 

Email