جون كيري الذي لم يقل شيئاً

ت + ت - الحجم الطبيعي

أعلن البيت الأبيض عن قرب استضافته في واشنطن لقمة موسعة لمكافحة الإرهاب لوضع أجندة مشتركة للتحرك المستقبلي، وهو ما روّج له وزير الخارجية الأميركي جون كيري في مقال له نشر منذ أيام بصحيفة الشرق الأوسط اللندنية تحت عنوان «صعود التطرف يمثل تحدياً لنا جميعاً» في رسالة موجهة إلى العالمين العربي والإسلامي.

وهو بلا شك جدير بالاهتمام لكونه يضع الخطوط العريضة للفكر الأميركي في هذا الصدد. فماذا قال المقال؟

بعد المقدمة النمطية عن خطورة التطرف والإرهاب المصاحب له والإقرار بالضرورة الملحة لمواجهته عسكريا كجزء من هذه المواجهة، أكد على أن الأخيرة لا تكفي وحدها لاحداث التغيير على المدى الطويل وأن الأمر يحتاج إلى «حوار عالمي» يضع أجندة مشتركة لكيفية التصدي له في اشارة الى موضوع القمة القادمة (وكأننا نعود هنا الى المربع رقم واحد بعد مرور ما يزيد على عقد من الزمان من انطلاق الحرب الدولية على الإرهاب)! وفي نفس السياق، يشير إلى أهمية تغيير المعطيات السياسية والفكرية التي تشكل البيئة الحاضنة له.

وأولى هذه الخطوات تكمن في «الحكم الرشيد» واقرار «دولة القانون» و«التنمية» التي ستخلق فرص عمل للشباب وبالتالي منع الإرهابيين من استقطاب الأجيال الجديدة والذين يستغلون «الغضب والجهل والمظلومية» لتجنيدهم.

هذا ملخص ما جاء في مقال كيري، والذي يثير من الأسئلة بأكثر ما يقدم من إجابات، فهو حديث نظري شديد العمومية ويتفق عليه الجميع أو على الأقل تردد وكُرر مئات المرات أما كيفية تحقيقه على أرض الواقع في ظل المشهد الراهن في المنطقة- وهو الجانب الأهم- فهذا ما لم يتعرض له المقال من قريب أو بعيد.

إذ لم يتطرق لظاهرة تفكك الدول بتداعيتها الخطيرة والتي أدت الى تلك الحالة غير المسبوقة من الفوضى والسيولة مما وفر ملاذا آمنا للتنظيمات الإرهابية وأعطاها جرأة للاستيلاء على أراض وأقاليم والامتداد الجغرافي هنا وهناك، وهي ظاهرة بدأت بتجربتي أفغانستان والعراق قبل أن تتبعها دول أخرى امتدت من ليبيا إلى اليمن.

فبعد أحداث 11 سبتمبر شنت أميركا حربها على الإرهاب لمواجهة تنظيم القاعدة في أفغانستان ومن بعده غزت العراق وأسقطت نظامه وحدث نفس الشيء بعد ما يقرب من ثماني سنوات بتدخلها في ليبيا من خلال الناتو.

وفي جميع الحالات تم تنصيب حكومات محلية ضعيفة لم تقو على تحقيق الاستقرار وإعادة بناء دولها، بل باتت تفقد تدريجيا سيادتها على أجزاء من أراضيها دون أن تقضي على تنظيم القاعدة، بل ظهر تنظيم متطرف آخر هناك هو طالبان، فضلا عما صاحب كل ذلك من تفجير للصراعات المذهبية والطائفية بعد تسليم الحكم إلى حكومة شيعية في العراق جعلت من المذهبية أداة لإقامة سلطة وجيش طائفيين.

وفي ظل هذه الأوضاع تفاقمت ظاهرة «الميليشيات المسلحة» لكل طائفة أو جماعة أو تنظيم على الجانبين السني والشيعي حتى أصبحت نماذج متكررة وفق نمط «المحاكاة» وهنا ظهرت «داعش» مستغلة حالة الفراغ السياسي والأمني والصراعات المذهبية.

والمفارقة أن من يواجهها هي فصائل من جيوش أو ميليشيات تابعة لطوائف أو أقليات كحالة «البشمركة» التابعة للأكراد.

ومن ناحية أخرى، تجاهل المقال جنوح دول إقليمية في الآونة الأخيرة نحو مزيد من النفوذ والمكانة والدور تتصارع فيما بينها مستخدمة تلك الميليشيات في حروب بالوكالة لتحقيق أهدافها دون أن يوقفها أحد.

فإيران تنافس السعودية وتركيا وقطر داخلة في معادلة التنافس الإقليمي بقوة وتعادي مصر خصما من دورها، وهو ما يجعل من الدول المفككة ساحة لهذا التنافس والذي لا يُراد له أن ينتهي ما لم تحقق كل دولة أهدافها منه. إنه صراع مفتوح يعتمد على ما يحققه كل طرف من مكاسب على أرض الواقع مما يغري بمزيد من الاقتتال والفوضى.

وفي هذا السياق، فإن الاستراتيجية الأميركية هي عنصر فاعل ورئيسي في مسار تلك الصراعات، فهي تقف في وجه البعض وتغض الطرف عن سلوكيات البعض الآخر وفق حسابات سياسية متغيرة، مثل حالة إيران الآن على سبيل المثال، التي أفسحت لها واشنطن (لاعتبارات تخص ملفها النووي) المجال لتنامي نفوذها في العراق وقبله في أفغانستان وحالياً في سوريا التي تقاتل مجموعات من حرسها الثوري مع القوات النظامية لبشار الأسد ونفس الشيء في اليمن، التي انتهى بها الأمر إلى استيلاء الحوثيين المدعومين منها على السلطة، ناهيك عن استمرار نفوذها في لبنان من خلال حزب الله.

ونفس الشيء ينطبق على علاقاتها بالأطراف الأخرى (سلباً أو إيجاباً حسب ما تقتضيه المصلحة الآنية) تركيا وقطر من جانب والسعودية ومصر من جانب آخر.

فكيف سيتم إذن تسوية كل هذه الصراعات والأهم كيف سيكون عليه شكل الدول مستقبلاً؟ وأين يقف حديث كيري عن الحكم الرشيد والتنمية من هذا الواقع؟!

 

Email