مدخل لثقافة ديمومة الأفكار

ت + ت - الحجم الطبيعي

لغوياً «الخلود» هو المصدر للفعل الثلاثي «خَلَدَ» الذي يعني دام وبقي، ويقال إن فلاناً خلد ذكره أي بقي على مرّ الزّمن. والحقيقة أن بعض ما يخلد يكتسب الكثير من الاحترام المشوب بالمهابة عند ذكره ويحظى بالكثير من الرهبة عند مواجهته.

خلود الجسد هو ما شغل بال الإنسان منذ القدم وليس بغائب عن الثقافة الإنسانية ملحمة جلجامش التي تحكي سعي ذلك الملك السومري لرفض الفناء ورحلته المضنية للحصول على الخلود. إلا أن فكرة الخلود التي عجز الإنسان عن تحقيقها جسديا كرستها بعض المؤسسات، التي لها مصالح في ذلك، فكريا وفلسفيا بادعائها ديمومة الأفكار.

حين نتأمل الفلسفة بأدواتها التي تتسم برحابة الآفاق باعتبارها الوعاء الفكري الواسع لكامل حقبة تأريخية لمجتمع معين بما في تلك الحقبة من أفكار نجد أنها بحق مرآة تعكس ثقافة عصرها وسيكولوجية مجتمعها، إذ لا يمكن لعصرين أن يكون لهما نفس المقاصد الفلسفية وذلك لأن الادعاء بذلك ادعاء بديمومة الأفكار وهو ليس غير مجرد وهم.

قد تتمكن الفلسفة في مفاصل معينة من التأريخ تتميز عن غيرها، من احتواء الفكر والضمير لكامل حقبة تأريخية في أطرها، وتجسيدها ماديا في شخصية عظيمة تفرض نفسها مفكرا أو مصلحا تشغل أفكاره الآخرين إلى حين كما شهدنا ذلك في سلم التطور الفكري عبر التأريخ.

ديمومة الأفكار يعني ارتقاءها إلى مستوى الإبهار بشكل يغلق الباب أمام تقبل أية أفكار أخرى وهي عملية تعطيل كامل لمسيرة التقدم، ولا نأتي بجديد حين نقول بأن الغرب لم يتمكن من الخروج من عتمة القرون الوسطى أو ما يطلق عليها العصور المظلمة إلا حين أعاد النظر لأفكار فلاسفة الإغريق القدامى وعلى رأسهم أرسطو، ورفض فكرة الوقوف عند ما أنجزوه، وكان على رأس من تصدى لتلك الأفكار الفيلسوف الإنجليزي فرانسيس بيكون.

ثقافة ديمومة الأفكار لدى أفراد أو جماعات قد أصبحت قوة تعيق التقدم في الدول النامية التي لم تبتعد كثيرا عن ثقافة المجتمع الريفي حين تبنتها بعض المنظمات السياسية مستفيدة من واقع أن مكونات هذه الدول لا تزال الأفكار القديمة تشغل حيزا لا يستهان به من مخيلاتها. هذه المكونات التي تشكلت على أسس عرقية أو قبلية أو عشائرية في الماضي قد حافظت على وجودها وعمقت جذورها من خلال العزلة الفكرية والثقافية عن العالم الخارجي بالدرجة الرئيسية.

من هذا المنظور كان مجيء الدولة المدنية الحديثة بمؤسساتها بمثابة صدمة قوية لها دفعتها لرفضها والبدء بوضع العصي في دواليبها لأنها جردت زعاماتها من الكثير من السلطات والامتيازات التي كانت لديها. فالدول الجديدة قد ولدت في بيئات غير مرحبة بها إن لم نقل معادية لها، فالريف وما يمتلكه من امتدادات واسعة في المدن هو الأكثر عددا والأكثر تمسكا بالتقاليد القبلية، له نظامه الخاص في الحياة اجتماعيا وثقافيا وأمنيا لم يرحب بها بل وجد فيها انتهاكا لأفكاره التي توارثها.

هذه المعيقات أمام عملية الانتقال إلى تقاليد المجتمع الجديد في دولة المؤسسات قد اتخذت نمطا جديدا مؤخرا حين لم تعد زعامات تلك المكونات ترى ضررا في الانخراط في مؤسسات الدولة المدنية والتغلغل في ثناياها عبر اللعبة الديمقراطية بغية السيطرة عليها لتعمل في النهاية على تجريدها من محتواها المدني وتوظيفها لصالح منظومة أفكارها.

إن المتابع لتطور العلوم لا يفوته أن يلحظ بأن النظريات العلمية التي تستند إلى المنطق وتشكل المعادلات الرياضية هيكلها غير قادرة هي الأخرى على الصمود أمام عجلة الزمن وأمام القدرات الفكرية للإنسان واستمرار سعيه نحو فهم أعمق، ووضع الجديد من الرؤى التي تحقق له المزيد من المعرفة والمزيد من الخيارات من أجل حياة أفضل. فتأريخ التطور العلمي هو تأريخ دحض نظريات قائمة بأخرى أفضل منها وأكثر قدرة على مواجهة التحديات، فمن خصائص النظرية العلمية نفسها القابلية لأن تُدحض.

إن تقويم المدى الذي يمكن أن يذهب إليه من يتبنى مبدأ ديمومة الأفكار ويكرس ذلك فلسفة في الحياة هو اختبار لمدى قصور بصره وبصيرته على استيعاب حقائق العصر ومتغيرات الحياة.

 

Email