الثالثة والنصف

ت + ت - الحجم الطبيعي

دخلت مصعداً في إحدى الدوائر الحكومية في طريقي لأحد الاجتماعات، ودخل معي شاب تحوي تعابير وجهه كل ضيق الدنيا وهو يحمل رُزمةً من الملفات، أردتُ ممازحته قبل أن يخرج عني فقلت رُغم أن الوقت ما زال في بداية الصباح: «هانت يا بو الشباب، ما شيء باقي على الساعة 3:30»، التفت لي وهو يحاول اصطناع ابتسامة فضحتها نبرة صوته المتبرّمة وهو يقول:

«الله يخليك، قل خمس»! كيف بإمكان موظف غير سعيد أن يُسعِدَ عميلاً؟ وأنى يستطيع موظف متبرّم ومعكّر المزاج أن يُبدِعَ في عمله ويبادر بحلول ومقترحات من شأنها أن تطوّر بيئة المؤسسة؟

والسؤال الأهم: ما الذي يجعل ذلك الموظف «معكنن على الريق» رغم جزالة الراتب وأناقة المبنى و«برستيجية» المسمّى الوظيفي؟، الجواب لا يحتاج قراءة كرة ساحرٍ بلّورية ولا ضرب وَدَع: إنّه هادم اللذات و«هازب» الجماعات يا سادة، نعم إنّه سيادة أو سعادة المدير المظفّر!

في دراسة حديثة لدائرة إحصائيات العمال الأميركية تبيّن أن متوسط بقاء الموظف في مكان عمل سنة ونصف فقط قبل أن «يطفش»، وبالتأكيد هو لا يرحل لأن شاشة الكمبيوتر غير جميلة أو أصباغ المكتب غير مبهجة، أو نوع خشب الطاولة غير جيد، فالناس لا تستقيل عن المؤسسة بل تستقيل عن مديرها أو مديرهم المباشر، أمّا من لا يخرج فهو يعيش حياةً أشبه بالموت السريري.

حيث لا عمل حقيقياً يضيف قيمة فعلية للمؤسسة يُمارسه، وإنْ قام بعمل لم يجد رابطاً بينه وبين ما يقرأه في الصحف على لسان مديره عن استراتيجية المؤسسة، أقول «يقرأه»، لأنه خبر مُعلَّب يذهب للصحيفة أما سيادته فلن يستطيع تبيان الاستراتيجية ومفرداتها لأنها عالم غامض بالنسبة له.

فالغرض من العمل ضبابي بعكس جوجل مثلاً حيث يعلم الجميع أن غاية عملهم «تنظيم معلومات العالم بطريقة يسهل التعامل معها والاستفادة منها»، بينما في بعض مؤسساتنا تجد مديراً يأمر موظفاً بتمرير معاملة ثم بعد ساعة يوبخه إن قام بتمرير معاملة أخرى مماثلة!

هناك وفرة في الموظفين في كل المؤسسات لكنها كما قال المتنبي:

أُعيذُها نظراتٍ منكَ صادقةً أنْ تحسِبَ الشَّحْمَ فيمن شحمُهُ وَرَمُ

فهي كثرة في غير محلها، وبتخصصات لا يحتاج العمل فعلاً لأغلبها، ولكنها النزعة «العائلية» وفرض «الاستيطان» للمعارف والأصدقاء وأبنائهم وزوجاتهم، وتجد من قام بتلك الفعلة من توظيف من لا تحتاجهم المؤسسة يحاول مواراة سوأة ما فعل باستحداث أقسام وشُعَب لا معنى لها إلا لكي يجعل وجود أولئك الأقارب والأحباب مُسَوّغاً...

أمّا من لديه شباب مبدعون لكنه يتخلّف عنهم كثيراً في المعرفة التخصصية فتجده يُشغلهم بتوافه الأمور حتى لا يُعاتبه مديره هو الآخر أن موظفيه يتسكعون في الممرات من قلة العمل، فلا تعجب أن تراه يرمي لهم بحُزمة قرارات مهمة لجهة عليا ليقول «اختصروهن لي»، «يا الطيب هذي مب قصة سندريلا، هذي قرارات لا يجوز اجتزاؤها»!

عندما قامت شركة Bolt بعمل مسح للمؤسسات الأميركية عام 2012 وجدت أن الموظفين يُضيعون أوقاتهم على أمور لا علاقة لها بالعمل ما يُكلف هذه المؤسسات قرابة 134 مليار دولار سنوياً، فما بالك بمؤسساتنا والتي فوق تضييع الموظفين لأوقاتهم كطبيعة البشر يجدون مديرين يُرغمونهم على تضييعها فيما لا ينفع، ثم يمرّون أمام مكتب سيادته ليسمعوا هديره ووعيده،..

وعندما يظنون أن ذلك الغضب لتأخر مورد عن مواعيد التسليم أو فشل مقاول في الوفاء بجودة مشروع تكون الصدمة أنّ «الهزاب» كان لصاحب مطعم لم يقم بتقليل الفلفل في صحن البرياني الذي يأتي به الساعة الواحدة كل يوم لسيادته.

إنّ كثيراً من المديرين يفتقدون للخيال الخلّاق والرؤية المختلفة لمؤسساتهم، فلا يصحون صباحاً وهم يرون سيناريو ما سيقومون به لتطوير الخدمات ورفع مستوى العمل وإلهاب حماس موظفيهم لمشاركتهم تلك الرؤية الملهمة، بل لا يصحو إلا ويفكر من أين سيطلب الريوق..

ومن سيمر عليه للدردشة في ساعات الضحى قبل أن يصل صحن البرياني المبارك على الغداء، هي رؤية يحركها البطن لا العقل، أقول ذلك وأنا أسترجع والت ديزني عندما كان يراقب طفلتيه وهما تلهوان بالأرجوحة في حديقة غريفيث بلوس أنجيليس فتخيّل مكاناً يلهو به الأطفال مع أهاليهم، فكان ذاك بداية حدائق ديزني التي تبلغ قيمتها السوقية حالياً 128 مليار دولار!

هناك موظفون فاشلون وسلبيون ويُصيبونك بالمرارة أيضاً، ولكن هناك أضعافهم من الراغبين في خلق فارق لمؤسساتهم ولكنهم لا يجدون لذلك عوناً من مسؤول، بل يحدثني أحدهم بأنه أتى مؤسسته الجديدة متهلّل المحيّا، متّقد الحماس لتقديم ما يشفع لتوليه تلك الوظيفة قبل أن يحصّل «طراق» معنوي من مديره في أول لقاء:

«أنا مش مقتنع تماماً بتخصصك ولا إدارتك، بس شو نسوي لازم نخليكم في الهيكل»، بالله عليكم كيف يُنتج شخص حتى لو كان جاك ويلش زمانه مع هذه النوعية المريضة والـمُمرِضَة من المديرين؟ وما الذي سيدفعه للإنجاز ومديره لا يعترف بأهمية دوره وتخصصه؟

لن أغمط الناجحين حقهم، فهناك مؤسسات رائدة بفضل قياداتها المميزة وهي كثيرة ولا نملك إلا التصفيق لهم من قلوبنا قبل أكفنا، ولكن هناك عاهات يعيثون بالعديد من المؤسسات فساداً ليس لفساد نواياهم في الغالب ولكن لضآلة قدراتهم كثيراً عن الأدوار التي يتولونها وكلما طال بقاؤهم هناك كلما ترسخت ثقافة الإحباط والسلبية في أوصال المؤسسة..

وإن انتظار أن يتغيّر أولئك بطريقة إعجازية ليصبحوا منتجين وأصحاب رؤية ملهمة هو ضرب من أحلام اليقظة واستغفال النفس، فمعهم سيبقى الموظفون ينتظرون وهم يتثآبون الساعة 3:30 وسيبقى صوت سيادته الغاضب يتردد في الممرات بسبب فلفل صحن البرياني!

 

Email