ليس كل «تطرف» سيئة ولا كل «اعتدال» حسنة

ت + ت - الحجم الطبيعي

يستوقفني في أحيان كثيرة مصطلح «التطرف» Extremism أو Fanaticism، لأنه لا وجود لتعريف محدد له على الرغم من كثرة استخدامه.

من جانب آخر اقتصر توظيف هذا المصطلح على الجوانب السياسية والدينية فحسب، حيث استخدم في وصم الجماعات التي تتبنى آيديولوجيات المغالاة السياسية أو الفكرية أو الدينية أو المذهبية في سعيها لإجراء تغييرات في البنى السياسية والقانونية والقيمية في المجتمع بما لا يتفق مع ما هو سائد فيه من تقاليد وأعراف. استخدام هذا المصطلح وتوظيفه لم ينسحب على حالات تطرف أخرى لا تقل تأثيراتها خطورة على حالة الأمن والاستقرار في العالم من التطرف الديني والسياسي إن لم تكن هي المحفزة على مبعثه، ألا وهو التطرف في الاستحواذ على مراكز النفوذ الدولية..

والتطرف في تجاهل حقوق الشعوب والتطرف في جشع الشركات في تحقيق الأرباح وزيادة ثرواتها، تطرفات أسهمت وتسهم في خلق حالات «تطرف» في الفقر والضياع يترتب عليها «تطرف» في رفض الواقع القائم وتمرد عليه والرغبة في تدميره.

مصطلح «التطرف» في اللغة هو «مصدر» للفعل «أطرف» أي ابتعد عن الوسط نحو الأطراف، فيقال حين تدنو الشمس من الغروب بأنها قد تطرفت. هذا المصطلح لم يرد «لفظا» في المراجع الدينية الإسلامية، قرآناً وسُنة،..

ولكنه ورد «معنى»، فمصطلح «الغلو» الذي ورد في القرآن أقل ابتعاداً عن الوسط، فالتطرف يشمل الغلو ولا يتوقف عنده في مدى الابتعاد عن الوسطية، ويصل أقصى مداه سياسيا أو فكريا أو دينيا أو مذهبيا حين تُسقط عصمة الآخرين وتستباح دماؤهم وممتلكاتهم، أي حين يتحول إلى «إرهاب» Terrorism ويصبح الموصومون به مطاردين في مختلف أنحاء العالم.

التأرجح بين «التطرف» و«الاعتدال» ظاهرة سياسية أو دينية أو مذهبية في كل مكان من العالم، وهي شائعة في صفوف الشباب بشكل رئيسي لأنهم يواجهون تحدي بناء المستقبل. قوة هذه الظاهرة أو ضعفها مؤشر على مدى توافر العدالة الاجتماعية وتوافر بيئة صحية، جسديا وفكريا، لنشأة الشباب وهي في الوقت نفسه مؤشر على مدى ضعف أو قوة مناعة المجتمع من الانحدار نحو العنف والتفكك.

ظاهرة «التطرف» هي الأكثر شيوعا في منطقة الشرق الأوسط بسبب التنوع الإثني والديني والمذهبي والثقافي وبسبب القيود الكثيرة، سياسيا ومجتمعيا وعقائديا، المفروضة على الانفتاح على رحاب الثقافات ومنظومات التفكير الأخرى وبسبب تراكم مشاكل متنوعة دون حلول على مدى أمد طويل وبسبب عوامل وتداخلات خارجية معقدة أيضا. وقد أصبحت هذه الظاهرة أحد أبرز أسباب عدم الاستقرار في مجتمعات هذه المنطقة خاصة في العقود الأخيرة من السنين.

والحقيقة أن الأخذ بمبدأ «التطرف» ليس بمعيبة في بعض الأحيان كما أن الأخذ بمبدأ «الاعتدال» ليس بمأثرة في أحيان أخرى. في هذا السياق نورد ما قاله السناتور الأميركي والمرشح الرئاسي الجمهوري باري غولدوتر في مؤتمر حزبه عام 1964 «التطرّف في الدفاع عن الحريّة ليس بالرذيلة، والاعتدال في مسعى العدالة ليس بالفضيلة».

كما نشير في السياق نفسه إلى أن اللغة الراديكالية المستخدمة في حملات الدفاع عن الأطفال لوضع حد لعبوديتهم واستغلالهم والدفاع عن حقوقهم في التعليم، صبياناً وصبايا، يعتبرها البعض تدخلاً في باب التطرف، إلا أن اللجنة المشرفة على جائزة نوبل للسلام لم تر في ذلك ضيراً حين قررت منح هذه الجائزة لعام 2014 لكل من الهندي كايلاش ساتيارثي والباكستانية مالالا يوسفزاي الراديكاليين في لغتهما وفي مقارباتهما لحقوق الأطفال«.

أصبح التطرف الذي بدأ يقلق السلم والأمن في العالم في العقود الأخيرة من السنين تطرفاً دينياً بالدرجة الرئيسية إلا أن من خطل الرأي اعتباره مقتصراً على فصائل تنتمي لدين معين أو طائفة معينة فقط، ففي هذا الصدد صدر عن الأمم المتحدة في ديسمبر عام 1999 ما يفيد بأنه »ليس هناك ديانة خالية من التطرف«..

وهذه حقيقة لا أحد يستطيع نكرانها. فقد شهدنا تطرفا هندوسيا في الهند وتطرفا يهوديا في إسرائيل وتطرفا مسيحيا في الصرب وتطرفا بوذيا في ميانمار وتطرفا إسلاميا في أكثر من دولة إسلامية. الممارسات التي شهدناها في هذه الأماكن هي الأكثر دلالة على مقدار همجية وبربرية التطرف حين تتحول مفاهيمه النظرية إلى تطبيقات على أرض الواقع.

تيار »التطرف" مصيره الفشل لا محالة لأن جميع الحركات الدينية والسياسية المتطرفة التي تبنت وتتبنى العنف في تسويق نفسها عبر التأريخ لم تحقق سوى نجاحات محدودة ولفترة قصيرة من الزمن كما كان الحال مع حركة الخوارج في صدر الإسلام.

أما في العصر الحديث فقد شهدنا اندحار الخمير الحمر في كمبوديا وانحسار عصابة الكوكلس كلان في الولايات المتحدة، وهو ما سيؤول إليه مصير تنظيم داعش لأنه السياق الطبيعي، إلا أن هذا لا يمنع من بقاء أفراد متطرفين يعيشون في عزلة داخل مجتمعاتهم.

إلا أن الحيلولة دون ظهور تيارات كهذه في المستقبل يتطلب معالجات تتجاوز شن الحروب عليها إلى معالجة الأسباب الكامنة خلفها، إذ طالما بقيت الجذور التي يمكن أن تنمو من جديد تبقى هناك مخاوف من معاودتها. هناك حاجة لمعالجات شمولية تتناول مقاربة ما شخصته وأوصت به الدراسات الأكاديمية والميدانية من أسباب رئيسية لهذه الظاهرة والتي تتعلق بالعيوب الكثيرة في النظام العالمي، والتي أبرزها اتساع الهوة بين الدول الغنية والدول الفقيرة.

 

Email