ماذا يريد العالم بمصر؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

خلال الثلاثين عاما التي حكم فيها حسني مبارك، طرأت على العالم تغيرات مهمة، ترتبت عليها تغيرات في نظم الحكم والعلاقات الدولية في مناطق كثيرة من العالم. ويدفعني إلى استعادة هذه التغيرات الآن، ما يطوف بالذهن من احتمال أن تكون لها علاقة وثيقة بما حدث في مصر والمنطقة العربية في السنوات الأخيرة، مما يشار إليه أحيانا بالربيع العربي.

دعني أذكّر القراء بأنه خلال هذه الفترة، سقط النظام الاشتراكي في دولة بعد أخرى من دول أوروبا الشرقية، بما في ذلك الاتحاد السوفيتي، وجرى تقسيم بعض هذه الدول إلى دول أصغر، كتشيكوسلوفاكيا ويوغسلافيا والاتحاد السوفيتي نفسه، ثم فوجئنا بهجوم العراق على الكويت واحتلالها، ثم طرد العراق من الكويت بتدخل عسكري من الولايات المتحدة (وبعض الحلفاء)، أدى إلى قيام قواعد عسكرية أمريكية جديدة في المنطقة. حدث أيضا قبيل هذه الفترة مباشرة ثم خلالها، قيام الثورة في إيران، وتغير نظام الحكم فيها، ثم هجوم العراق على إيران ونشوب حرب بينهما استمرت ما يقرب من عشر سنوات، كان العراق يحصل خلالها على دعم عسكري كبير من الدول العربية.

لا بد أنه كان لهذا التغير في مراكز القوى النسبية، وخطر حدوث المزيد منه، علاقة بقيام الولايات المتحدة بغزو العراق في 2003، وإسقاطها لنظام صدام حسين، بالنظر إلى ما هو معروف من غنى العراق باحتياطيات البترول، واشتراك أوروبا الغربية واليابان في هذا الغزو، مما يجعل من الصعب تصديق التفسيرات الرسمية لهذا الغزو، كالقول بأنه كان بغرض تخليص العراق من الدكتاتورية، أو من أسلحة الدمار الشامل، التي ثبت على أي حال خلو العراق منها.

كل هذا وأكثر منه، حدث بينما نظام حكم حسني مبارك في مصر باق كما هو، وكأنه قادر على مقاومة الزمن. بقي هذا النظام وشاخ، مما كان لا بد أن يقترن بزيادة ما يتسم به من فساد وقلة كفاءة وفشل في تحقيق آمال المصريين، كما استمرت نظم أخرى في بلاد عربية أخرى، كتونس وسوريا واليمن، وكذلك في ليبيا التي استمر حكم القذافي فيها مدة تزيد على حكم مبارك والسادات معا. ألم يكن من اللازم إذن، أن تحدث تغيرات مهمة في المنطقة العربية توائم ما حدث في العالم الخارجي من تغيرات؟

للإجابة عن هذا السؤال، لا بد أن نعترف أولا بحقيقتين، الأولى: أن مصر طوال الثلاثين (بل الأربعين) عاما الماضية، كانت في سياستها الخارجية والعربية وسياساتها الاقتصادية خاضعة إلى حد كبير للإرادة الأمريكية، وذلك رغم كل ما كان يصدر من تصريحات من الجانبين لإنكار هذه الحقيقة، وتظاهر الجانبين بأن مصر كانت تتخذ قراراتها بحرية مدفوعة بقناعاتها الخاصة. الحقيقة الثانية: أن كثيرا من التطورات التي حدثت في العالم خلال هذه الفترة، وأشرت إليها في ما سبق، ينطوي على ما يمكن وصفه بأفول العصر الأمريكي، أو تراجع المركز النسبي للولايات المتحدة في ميزان القوى في العالم، على الرغم مما بدا على عكس ذلك في أعقاب سقوط النظام الاشتراكي مباشرة وتفكك الاتحاد السوفيتي، الذي راجت بعده مباشرة مقولة »نهاية التاريخ«، ولكنها سرعان ما نُسيت.

كثر الكلام بعد ذلك على أن العالم قد انتقل من نظام القطبين إلى نظام »متعدد الأقطاب«، أي من نظام يحكمه التنافس بين قوتين عظميين (الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي)، إلى نظام يستحيل فيه على أي دولة (بما في ذلك الولايات المتحدة وروسيا) أن تفرض إراداتها في مناطق كانت تتمتع فيها بنفوذ خاص (كما كان واضحا في العقدين التاليين لانتهاء الحرب العالمية الثانية، في علاقة الولايات المتحدة بأمريكا اللاتينية وعلاقة الاتحاد السوفيتي بدول أوروبا الشرقية)، كما يستحيل على قوتين دوليتين أن تحكما العالم طبقا لما يجري بينهما من اتفاق (كما حدث في عصر الوفاق بين منتصف الستينيات ونهاية السبعينيات).

لقد حاولت مصر مع عدد من دول العالم الثالث التي تبنت سياسة عدم الانحياز في ما بين 1955 و1965، كالهند وإندونيسيا ويوغسلافيا، أن تمارس إرادتها المستقلة، ونجحت في ذلك إلى حد كبير، ولكنها سرعان ما استسلمت لضغوط الدول الكبرى، التي استخدمت في ذلك طرقا مختلفة من الهجوم العسكري (كما حدث في مصر 1967 وفي تشيكوسلوفاكيا في السنة التالية)، إلى الانقلاب العسكري (كما حدث في إندونيسيا وغانا والجزائر وغيرها).

وقد يتبادر إلى الذهن أن الظروف الآن، بما تنطوي عليه من نظام تعدد الأقطاب، قد تسمح لمصر وغيرها من الدول المماثلة لها في الحجم والوزن الاقتصادي والسياسي، أن تمارس مرة أخرى سياسة الاستقلال التي مارستها في عهد عبد الناصر، ولكن أستبعد هذا الاحتمال لثلاثة أسباب؛ أحدها يتعلق بالولايات المتحدة، والثاني يتعلق بإسرائيل، والثالث بمصر نفسها.

أما الولايات المتحدة، فإنه يبدو من الطبيعي جدا أن تستخدم كل ما في يدها من وسائل، لوقف ما يتعرض له مركزها النسبي في العالم من تدهور، ومن بين هذه الوسائل الاستغلال، إلى أقصى درجة ممكنة، لما لا يزال بيدها من أوراق، ومن بين هذه الأوراق، نفوذها الباقي في المنطقة العربية، وعلاقتها الراسخة بنظام الحكم في مصر، والتي تعود إلى أربعين عاما مضت، فيما يتطلب منع أي جهد تبذله مصر للإفلات من قبضتها.

وأما إسرائيل، فبعد ما حققته من نجاح وتفوق على جيرانها خلال الثلاثين عاما الماضية، لا أظن أنها يمكن أن ترضخ بسهولة لمحاولة من جانب مصر لممارسة إراداتها المستقلة، بل لعل إسرائيل تشعر الآن بأن الفترة الحالية هي فترة مناسبة جدا للسير خطوات جديدة نحو تنفيذ مشروعها الكبير، بإخضاع المنطقة العربية لنفوذها. أما السبب الذي يتعلق بمصر، فأقصد به ما أصاب مصر من ضعف جراء ثلاثين عاما من الخضوع لنظام كان يزداد ضعفا وفشلا مع مرور الوقت، فإذا به يترك مصر بعد سقوطه، في حالة مذهلة من الهزال وقلة الحيلة.

كل هذه الأسباب الثلاثة تقف عقبة في وجه محاولة مصر العودة إلى سياسة الستينيات، من ممارسة بعض الحرية في التصرف واستعادة درجة كبيرة من حرية الإرادة.

هناك مع ذلك احتمال آخر لا يمكن استبعاده، ولا يتعارض مع ما ذكرته حتى الآن، ولكنه يزيد الصورة تعقيدا، وقد يفسح لنا طاقة من الأمل. ذلك أن الهدف الأمريكي الذي يتعلق بالصمود أمام منافسة القوى الجديدة الصاعدة في آسيا، قد يتطلب أن تتخذ الولايات المتحدة مواقف في المنطقة العربية لا تتفق تماما (بل وقد تتعارض إلى حد كبير) مع الرؤية الإسرائيلية (خاصة إذا أخذنا في الاعتبار ما تتطلبه المصالح الأمريكية من مواقف إزاء إيران وسوريا).

إن هذا التعارض المحتمل بين المصلحتين، قد يدشن مرحلة جديدة لم نر مثلها من قبل، من صدام محتمل بين الإرادتين الأمريكية والإسرائيلية، قد يفسح مجالا أمام مصر للحركة المستقلة، مما لم تعهده أيضا منذ ما يقرب من خمسين عاما. هل يمكن أن تلقي هذه الاحتمالات بعض الضوء على الوضع المصري والعربي الحالي الذي يكتنفه ظلام كثيف؟

Email