تفتيت فلسطينيي 48 .. طبعة منقحة

ت + ت - الحجم الطبيعي

لو كانت إسرائيل دولة لكل مواطنيها، على النهج الليبرالي الغربي كما تزعم، لما ميزت بين هؤلاء المواطنين في بطاقات الهوية وصنفتهم إلى يهود ومسلمين ومسيحيين ودروز.. بل ولانتفت الحاجة لوجود خانة الديانة من الأصل في هذه البطاقات. لكن فلسفة التمييز العنصري الصهيونية لا تقتصر على هذا الإجراء، بتداعياته الحقوقية على كافة مناحي الحياة،.

ففي إسرائيل، يتم إدراج المواطنين الفلسطينيين الأصليين عملياً، تحت تابعيات وهويات فرعية بحسب المذاهب والمناطق والجهات والقبائل والبطون والعائلات، وأحياناً بحسب المواقف الايديولوجية والسياسية من الدولة.. فهناك عرب المثلث، وعرب الجليل، وعرب أو بدو النقب، وسكان المدن المختلطة.

وداخل هذه المنوعات الجهوية، ينقسم الفلسطينيون وفقاً للديانات والمذاهب والقبائل.. ومع ما تثيره هذه التوليفة العجيبة من حنق وسخرية، يبدو أن جراب الحاوي الصهيوني ما زال عامراً.

فضمن أحدث مبتكرات ابتداع الصدوع وتصنيعها في أحشاء مجتمع عرب أو فلسطينيي 1948، أعلنت وزارة الداخلية الاسرائيلية في 16 سبتمبر الجاري، عن البدء في إلحاق كلمة «آرامي» بكلمة مسيحي، في هويات المواطنين المسيحيين.

هذا نذير سوء على ما يضمره صانع القرار الصهيوني الإسرائيلي تجاه شرائح هذا المجتمع، فقريباً يصبح التعامل بسياسة التمييز والفصل العنصري مع هذه الشرائح وفي ما بينها، مكشوفاً ومتبجحاً أكثر فأكثر.

وإذا مر هذا المستجد فسوف تظهر هويات لا حصر لها لأبناء هذا المجتمع؛ قد يتم التمييز فيها بين الجماعات المنمنمة تحت مسميات من قبيل مسلم من المثلث، مسلم بدوى من النقب، درزي من الجليل، مسيحي أرثوذكسي، مسيحي كاثوليكي، مسيحي من اللاتين، أجنبي مقيم في حيفا، أجنبي في يافا، مسلم من قبيلة زيد، مسلم من بني عبيد..

المؤكد أن صلة فلسطينيي 48 جميعاً بأرومتهم العربية، هي أقوى وأعمق بكثير مما يربط قطاعات المهاجرين اليهود إلى الكيان الصهيوني ببعضهم.. أقله، لأن ثمة تاريخاً ولغة وبنى ثقافية مادية وروحية وأواصر دم ورحم تشد أبناء المجتمع الفلسطيني إليها، وتفرض عليهم التلاقي على الصعيدين القومي والوطني.

هذا في حين يثور السؤال عما يربط اليهودي القادم من اليمن أو من الهند شرقاً، باليهودي المستجلب من أوكرانيا أو فرنسا شمالًا، أو من الأرجنتين غرباً أو من جنوب إفريقيا؟

منذ عشرات السنين والمشروع الصهيوني يلهث، سعياً إلى تلفيق هوية إسرائيلية مشتركة لأناس لا يشتركون في شيء، اللهم الا في عنصر الديانة، الذي تثور شكوك حول انتماء بعضهم إليه.

وعلى التوازي من ذلك، يستميت القائمون على هذا المشروع لتحطيم قوام المجتمع الأصيل، الذي تتوفر له كل مقومات الحياة تحت سقف دولة وطنية واحدة لا عوج فيها.

ربما جادل البعض بأن سياسة التمييز وتمزيق النسيج الاجتماعي لفلسطينيي 48، مسألة قديمة ولا تنطوي اليوم على جديد فارق، سوى النزوع إلى طرح المزيد من الوسائل والآليات.

لكن هذه القناعة لا ينبغي أن تحجب السؤال عن أسباب النقلة النوعية في هذه السياسة، وتغذيتها بطبعة جديدة مزيدة؛ شديدة السفالة والتواقح في هذا التوقيت.. واجتهادنا في هذا السياق، هو أن المشرع الصهيوني يهدف إلى قطع الطريق مجدداً على دعوتين آخذتين في البروز بقوة؛ أولاهما بين فلسطينيي 48، خلاصتها الاصطفاف خلف مطلب الاعتراف بهم كقومية مغايرة، بكل ما يتأتى عن ذلك من استحقاقات داخل الدولة.

والثانية تدور في أوساط بعض القوى الفكرية والسياسية الاسرائيلية ذاتها، مؤداها أن فشل التسوية الفلسطينية خلف الخط الأخضر، سيؤدي بمرور الزمن إلى نشوء الدولة ثنائية القومية، وعندئذ سيكون لفلسطينيي الداخل شأن أكبر في حسم موازين القوى لصالح الجانب العربي الفلسطيني، ما لم يتم كسر شوكتهم القومية والوطنية وتذريتهم.. كأن سياسة التفتيت المضافة راهناً، تكاد تكون خطوة استباقية ضد هاتين الدعوتين.

لا توجد دولة في هذا العالم تنحو من تلقاء ذاتها إلى صناعة الصدوع والشروخ في بنائها الاجتماعي السياسي، فكل الدول العاقلة تتجه إلى العكس، حتى وإن لم يستحوذ اجتماعها السياسي على عوامل الوحدة. وهكذا فإن ما تقوم به إسرائيل يعد بدعاً من سلوك الدول، لكن ماذا نقول إن جاء العيب من دولة قامت وعاشت عليه!

 

Email