من أين أُتينا؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

خلال فترة زمنية ليست بالطويلة أصبحنا نمسي على خبر مفجع ونصبح على خبر صادم، حتى استوت لدينا دون وعي حياة الواقع والحياة الافتراضية إن جاز التعبير، فما نشاهده أحياناً يبدو لنا مفبركاً أو فوتوشوب أو ربما أُلعوبةً من خفة يد الساحر كريس آنجل.

لكن ما يعيدنا للواقع وبأن ما نراه ليس فيلم رعب أو مشهداً تمثيلياً ذاك النفير العالمي الذي حدث لأكابر الرؤوس من أجل إيقاف نزق مجموعة خرجوا فجأة وكبروا فجأة وأصبحوا العدو الأول والأشرس للعالم بأكمله فجأة.

لم تخرج داعش كحدث شاذ في التاريخ الإنساني، ولكن ما جعل الأمر يبدو بهذه الحدة والصدمة لنا هو سقوط ورقة التوت عمّا كان يحدث دون ضجيج كبير بسبب ظهور وسائل التواصل الاجتماعي والتي جعلت بمقدورنا أن نسمع "كحة" كل أحد، ولكن يبقى التساؤل لماذا خرجت داعش؟

وهل حقاً هم صنيعة المخابرات الأميركية من أجل إيجاد مدخل قانوني يبرر التدخل العسكري لأميركا وحلفائها في منطقة تعتبر قلب العالم بأسره في مجال الطاقة، أم هم كما يُطرَح أيضاً عودة لحزب البعث العراقي ورموزه الذين اخترقوا تنظيم قاعدة بلاد الرافدين على حين غرة؟ أم هم النسخة الأكثر شراسة ودموية من القاعدة الأم؟

تتكاثر الروايات ويكثر المؤيدون لرأي دون آخر، ولكن ما يهمني هو أن أعود قليلاً للوراء لنقف عند أحد المسببات لأن الوضع يتكرر من جديد وما لم نتداركه، وإلا لن يكون المستقبل أقل عنفاً أو انحرافاً، فقبل العقدين من الزمن انتشرت نزعة إحياء الصراعات المذهبية التي كانت رائجة خلال العصرين: أواخر الأموي وطيلة العصر العباسي.

و"تكسبّت" دور طباعةٍ بعينها من هذا الإفساد الفكري دون سبب واضح، وما زلت أذكر الصراعات التي انتشرت وتحديداً إثر نشر الشيخ يحيى المعلمي اليماني لكتابه "التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل" والذي كان الشرارة الكبرى للصراع المحموم بين تلاميذ الشيخ اليماني ومعهم تلاميذ الشيخ ناصر الدين الألباني ضد تلاميذ الكوثري بزعامة عبدالفتاح أبو غدة، وتم تأليف عشرات الكتب في الثلب والتنقيص ومهاجمة الآخر بصورة فجة.

وأصبحنا فجأة نقرأ عن المعتزلة والأشعرية والجهمية والمعطلة والماتريدية وغلاة الصوفية والقبوريين وعن خطرهم على الأمة، حتى كتب التراث الإسلامي التي حققها هؤلاء ملؤوا مقدماتها بفصولٍ من الإساءات والتي كانت ترسّخ قضية إلغاء الآخر فوق تخطئته دون وجود محاولات لنقاش هادئ بعيداً عن كل ذلك النزق الذي قاده طلاب علم يتلمسون الظهور والشهرة رغم يقيني بأن منهم كثير كانوا سليمي النوايا ولكن المقاربات كانت خاطئة والنتاج كان جيلاً ممن لا يرى إلا صواب رأيه فقط.

الجزئية الأخرى التي طالما مرت ببالي هي قضية المعتقد، المعتقد بشكلٍ عام، فهو المحرك الرئيسي الذي باستطاعته جرّ الجم الغفير من الجماهير دون وعي إن تم التلاعب به بطريقة جيدة، فالناس لا يناقشون المعتقد في البداية لأنه لا يبدو إلا محور قيم إنسانية مثلى.

وما بين تحكيم القرآن للخوارج وإعادة حق آل البيت للعبيديين، والحرية والعدالة في ثورة فرنسا وسجناء الباستيل، وإعلاء حق الجماعة فوق جشع الفرد في ثورات الشيوعية، ولأننا لا نتعلم فها هي داعش تعيد الكرّة وهي تسوّق المعتقد من جديد وتدندن على وتر الخلافة وترفع الرايات السود التي ذكرت في الأحاديث النبوية أنها ستأتي من خراسان في عودة لخلافةٍ على أمر النبوة.

ولعلم من وراء داعش أنّ هناك قطيعاً كبيراً من البشر لا يمحّص المرويات كثيراً كان يعلم أنّ مجرد استحضار رايات سوداء مع عمائم ولحى مرسلة سيكون كافياً لضبط الحبكة، وما دامت البدايات هي الأهم فإن هذه الهيئة "التاريخية" ستكفي لجذب الأتباع للمعتقد "المحوَّر".

فالمعتقد لا تتم مناقشته خلال فترة المؤسسين أو "المروجين" أو "المحوِّرين" له لأن تحوير المعتقد يعتبر معتقداً جديداً فعلياً، وإنما يكون التمحيص والمناقشة خلال الجيل الثاني أو الثالث وهي فترة المراجعات في الغالب والتي يخرج منها أيضاً خطّان: أحدهما يتراجع عن الكثير من الأساليب أو الأفكار لعدم مواءمتها لمجريات الحياة وتعارضها مع المجتمع المحيط وهي فئة قليلة غالباً.

والآخر ذو النسبة الأكثر يقوده شباب مندفع في الغالب ساخط على مجتمعه أو غير قادر على مواجهة فشله كإنسان ليؤسس خطّاً أكثر عدوانية وأقل رغبة وليس قدرة فقط في التواصل والتفاهم مع الآخر المخالف.

داعش لن تكون النهاية، فإفرازات العقدين الماضيين وجريمة بعض دور الطباعة في حق الأمة لن تتلاشى بهذه السهولة، وما تلك التغاريد المؤيدة أو المبررة لداعش وأمثالها إلا لمحات مما أفرزته كتب المعارك المذهبية من تشويش فكري لهذا الجيل، وكم هو غريب أن نرى خطّاً جديداً بدأ في الانتشار ومن دور طبع جديدة عن أسرار وخفايا العالم والماسونية وكهنة المعبد وأضرابهما.

وللأسف تحظى بإقبال كبير مما ينبئ بظهور جيل موسوس لا يحمل في ذهنه إلا تفسيراً تآمرياً في كل شيء وعن كل أحد، فمتى ستصحو هيئات الثقافة في بلاد العرب من سباتها وتتوقف عن مديح نفسها وتَعُد لدورها الفعلي في تقييم وتمحيص ما يباع للناس قبل أن يُخرِج لنا الغد نبتة شيطانية أخرى.

 

Email