الإسرائيليون وجدل الحرب الملعونة

ت + ت - الحجم الطبيعي

أظهرت محصلة عدد من استطلاعات الرأي أن حملة حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو ورهطه على غزة ، لا تحظى سوى بتأييد 57 % من سواد الإسرائيليين. هذه نسبة منخفضة تنفي وجود أغلبية كبيرة أو إجماع إسرائيلي وراء العدوان الذي سموه هناك عملية »الجرف الصامد«، وتشير إلى أن هذا الجرف ليس مدعوماً شعبياً بما يكفي للادعاء باحتمال صموده طويلاً.

يمكن تعليل الانقسام الشعبي الإسرائيلي حول هذه الحملة العدوانية بغموضها من حيث الأهداف، وفشل النخبة الإسرائيلية الحاكمة في إجراءات التعبئة والحشد والتبرير اللازمة لإقناع الرأي العام بها. ويبدو أن الإسرائيليين لم يتزحزحوا عن موقفهم المتلعثم تجاه الهجوم المباغت على غزة، حتى بعد أن لفق نتنياهو هدفاً حسبه مغرياً لجمهوره مفاده »إعادة الهدوء إلى المدن والبلدات الإسرائيلية لفترة طويلة، وإلحاق أضرار جسيمة بالبنية التحتية للإرهاب«. ومن دواعي السخرية في هذا الإطار، أن نتنياهو لم يلحظ ما كانت عليه مدنه وبلداته من هدوء ودعة، قبل أن يسهم هو ورهطه من المتنمرين في الزج بها تحت نيران مقاومة باسلة شديدة البأس.

ليس أدل على حالة الشد والجذب في الجبهة الداخلية الإسرائيلية من تعرض نتنياهو وحكومته للهجوم والتقريع من الاتجاهات والقوى السياسية كافة، سواء في ذلك تلك الموصوفة باليمينية أو المصنفة تحت عناوين وشعارات يسارية. وهناك مؤشر آخر، مفاده التردد مطولاً في اتخاذ قرار الاقتحام البري للمدن الغزية.

تعد وضعية الارتباك هذه ضارة جداً على الصعيد المجتمعي برمته، حين تجري أثناء المعركة.. فالأصل في التقاليد الإسرائيلية، وغير الإسرائيلية، أنه حين يندلع القتال فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة. لكن ما حدث بين يدي هذه الجولة العدوانية هو أن أصواتاً إسرائيلية كثيرة راحت تنحو باللائمة على من شنوا حرباً لا يعرفون لها هدفاً مستقراً، ولا يستطيعون ضبط إيقاعها وردود أفعالها، ولا حتى توقع مستوى مقاومة »العدو« وصلابة إرادته خلالها. وفي هذا السياق كتب يوئيل ماركوس (هآرتس 18/7/2014) أن الأيام التي تباهت فيها إسرائيل بالانتصار على سبعة جيوش عربية قد انتهت، »فنحن لدينا صواريخ عابرة للقارات، ولكنها لا تحمينا من صواريخ غزة البدائية«.

علينا أن نعترف بأن بعض الإسرائيليين يملكون بصيرة زرقاء اليمامة. ماركوس أحد هؤلاء، فهو يعتقد بأن قوة إسرائيل الجبارة التي تستخدمها ضد الفلسطينيين في غزة وغيرها هي التي تولد »الإرهابيين« لاحقاً، فالأطفال الذين يرون بيوتهم مهدمة اليوم »سيكبرون، وسيكون منهم مخربو المستقبل«. بفعل هذا التشوف، المنطقي في حقيقة الأمر، ينادي بعض الإسرائيليين بصوت عال باستغلال الميول والتوجهات السلمية للرئيس الفلسطيني محمود عباس، وتعزيز جانبه بتقديم »تنازلات« لصالحه. ميزة هذه الأصوات أنها تزعق في وجه زمرة الحربجية الإسرائيليين بزعامة الثالوث الدموي المنكود؛ رئيس الوزراء ووزيري الدفاع والخارجية، وتشي بأسلوب لم يغامر الإسرائيليون بسلوكه كثيراً أثناء حروبهم علي العرب. نحن أمام مشهد يذكرنا مع الفارق النسبي، بالذين غضبوا على مناحم بيجين وأرييل شارون أيام غزو لبنان في صيف 1982.

لا يتحرك أصحاب هذا الاتجاه الناقد لقرار الحرب المفاجئ على غزة عن نوازع طهرية إنسانية أو عن قناعة بالحقوق الفلسطينية، أو عن رغبة في الانصياع لإرادة الشرعية الدولية.. إنهم أولاً وأخيراً صهاينة أقحاح؛ لكنهم أكثر نضجاً من أن تخدعهم ذكريات الأيام الخالية، حين كانت إسرائيل تستحوذ علي مصادر القوة التي تمكنها من هزيمة سبعة جيوش عربية بسهولة، على نحو ما يشير الصحافي ماركوس بشيء من التندر والسخرية. ومنهم من يستحث نتنياهو على مخاصمة شياطين معسكر اليمين المتعصب وغلاة المستوطنين، وذلك من باب الحرص على مستقبله السياسي لأن »هؤلاء سيكونون أول من يقف على دمائه السياسية، حين تزهق أرواح مقاتلين شبان لا ينبغي أبداً المخاطرة بحياتهم لأجل هدف غير محدد«.

بالتوازي والتزامن مع هدير آلة الحرب الإسرائيلية اللعينة، التي راحت تصب حممها بوتائر ومعدلات إجرامية غير مسبوقة على أهلنا الصامدين أسطورياً في غزة، كانت الأروقة الصحافية والفكرية والسياسية الإسرائيلية مجالاً للتناظر والاصطكاك بين الرؤى والتقديرات، بشأن أيلولة هذا العدوان في الحال والاستقبال.

ومع الزعم بأهمية المتابعة الدقيقة لمسارات هذا النقاش ومداراته، فمن الأهمية بمكان كبير أيضا ألا يغالي أحد في استشراف تأثيرات إيجابية عاجلة لرافضي هذا العدوان المسعور. ذلك لأن قرارات الحرب والسلام في إسرائيل الدولة ما زالت بيد أهل الحل والعقد من الصهاينة؛ الذين ما زالوا مأخوذين بعنجهية القوة، ويرون الحاضر بعيون الماضي، رغم المسافة الشاسعة بين الزمنين على ما نسمع ونرى إسرائيلياً وفلسطينياً.

 

Email