الأقليات في العراق.. محنة حقيقية

ت + ت - الحجم الطبيعي

في مناسبات قليلة أجد نفسي عاجزاً عن إيجاد مفردات لغوية مناسبة للتعبير بوساطتها وبصدق عن مآسي أو مهازل المشهد العراقي، إحدى هذه المناسبات هو ما حدث مؤخرا في مدينة الموصل وهو مشهد رحيل آخر من تبقى من العوائل المسيحية عن هذه المدينة التي سكنتها وأسهمت في إغنائها حضاريا عبر التاريخ، رحلت وقد سلب منها كل شيء عدا الملابس التي ترتديها لأنها لم تعد تملك خيارا آخر للبقاء أمام الإنذار الذي أعلنه تنظيم «داعش» باجتثاثها كأقلية دينية.

وحين أتجاوز الحديث عما هو ذاتي وأعود للحديث موضوعيا عن هذا المشهد المؤلم أجد نفسي أمام واقع مخجل علينا مواجهته والتعامل معه وهو مستوى الانحطاط والسقوط الأخلاقي والحضاري والقيمي الذي وصلت إليه حالة الأوضاع في العراق، حيث أصبح مواطنوه من الأقليات العرقية أو الدينية أو المذهبية موضع اضطهاد وباتوا غرباء يطردون من مدنهم من قبل غرباء وفدوا إلى هذه المدن.

ها قد فرضت داعش نفسها بقوة السلاح، رغما عن النظام الإقليمي والنظام العالمي، دولة تبسط نفوذها على مساحات واسعة من أراضي الدولتين العراقية والسورية لتصبح مصدر تهديد حقيقي لوجودهما. في العراق كان أول من استهدفته هي الأقليات الدينية التي أصبحت ضعيفة جدا يسهل استهدافها منذ أن سيطرت أحزاب الإسلام السياسي على مفاتيح العملية السياسية بعد سقوط النظام السابق.

ومع أن ما تقوم به داعش من أعمال لا إنسانية يلقى استهجانا وشجبا من جميع الأطراف محليا وإقليميا ودوليا إلا أن لا أحد من هؤلاء لديه نية حقيقية للتدخل لوقف ذلك. حين نتساءل في هذا السياق عن سر القوة التي تتميز بها «داعش» وعن الانتصارات السهلة التي حققتها نجد أن قوتها لا تكمن في المبادئ التي تحملها أو الرسالة التي تبشر بها ولا في قدراتها العسكرية..

ولا في سجل إنجازاتها وهو سجل حافل بالجرائم منذ الإعلان عن تأسيسها في أكتوبر 2006 تحت مسمى «الدولة الإسلامية في العراق» وامتداد نشاطاتها إلى الأراضي السورية بعد اندلاع الثورة المسلحة هناك ليتغير المسمى ويصبح «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، الذي يحتل في الوقت الحاضر ما يقرب من ثلث الأراضي السورية.

قوتها الحقيقية تكمن في قدرتها على الحصول على حواضن في بعض المناطق التي أصاب حسها الأمني خدرا ولا مبالاة بفعل سوء الأوضاع والفساد المستشري في أوساط النخب السياسية وأجواء الإحباط المخيمة فيها بعد أن أحرق ملف المصالحة الوطنية وتنامى الحس الطائفي ليتجاوز على الحس الوطني. فقد لوحظ أن قوة هذا التنظيم تتنامى مع التراجع المستمر في ملف المصالحة الوطنية والتنامي في حجم الفساد، حيث تمكن من تنفيذ مئات العمليات التي اتسمت بأقصى درجات العنف والدموية حصدت خلالها أرواح الآلاف من أبناء العراق..

وكان أبرز العمليات التي قامت بها هي اقتحام سجن أبو غريب وتحرير معظم السجناء في يوليو 2013. دخول داعش بهذه القوة على المشهد السياسي وحالة الفوضى التي أعقبت ذلك فتحت الفضاء العراقي للتنظيمات الجهادية للدخول وإغراق البلد بالمزيد من الفوضى والعنف بحجة الدفاع عن المهمشين..

فقد بلغ عدد المهجرين وفق مصادر الأمم المتحدة مليونا ومئتي ألف معظمهم يعيش في الخيام. من جانب آخر تسبب هذا الدخول في اختلاط أوراق الحلول السياسية بأوراق الحلول العسكرية والأمنية وأسهم في التصعيد من حدة الصراع الدائر بين الفرقاء العراقيين وتزايدت تبعا لذلك مخاوف دول الجوار ذات المصالح المتضاربة وعاد الحديث عن احتمالية طرح المسألة العراقية على طاولة التدويل. إن فشل النظام السوري في القضاء على الثورة المندلعة منذ ما يزيد على السنوات الثلاث يمهد الطريق أمام العراق ليصبح في الوضع نفسه..

فالقوات العراقية هي الأخرى كما يتضح من طرائق أدائها غير قادرة على القضاء على داعش مما سيفتح المنطقة على فضاءات الفوضى والمجهول. إن تردد الغرب في حسم الصراع في سوريا قد سمح بتنامي قدرات التنظيمات الجهادية، والتأخر في حسم الموقف من داعش في العراق سيضاعف من قدرات هذه التنظيمات وتصبح مجابهتها أكثر صعوبة وتعقيدا في المستقبل. ا

لولايات المتحدة من جانبها ترصد المشهد بكل دقة إلا أنها لا تريد التدخل ومواجهة داعش بشكل مباشر في الوقت الحاضر على الأقل على الرغم من أن الرئيس أوباما قد قال في الثاني عشر من يونيو خلال المؤتمر الصحافي الذي جمعه مع رئيس وزراء أستراليا توني أبوت، إن «من مصلحة الولايات المتحدة ضمان ألا يحصل الجهاديون على موطئ قدم في العراق». إلا أنه من جانب آخر يرى «إن على الولايات المتحدة عدم استخدام العنف إلا في حالة الدفاع عن أمنها القومي أو أمن أي من حلفائها، وأنها قد تستخدم ذلك منفردة إذا اقتضى الأمر».

فهي تعتبر الصراع الجاري في العراق صراعا سياسيا داخليا يلعب داعش بعض الدور في ساحاته من جهة، وهي لا تنظر إلى النظام القائم فيه على أنه حليف لها على الرغم من أنها هي من مهد الطريق أمامه نحو السلطة من جهة أخرى. ويبقى السؤال يدور في الأذهان حول الطريقة التي سوف يقي كل طرف نفسه من التداعيات السلبية لتنامي قدرات داعش في العراق ويستثمر هذا الوضع المعقد بما يخدم مصالحه بغض النظر عما سيلحق بالعراق وشعبه من أضرار.

 

Email