رهان وطن

ت + ت - الحجم الطبيعي

من عادتي أن أقرأ ما أجده أمامي من كتب أو مقالات، فالحكمة ضالة المؤمن، وكلما أضاعتني بعض أساليب الكُتّاب في متاهات لا تنتهي ومسارات لا أعرف أين وجهتها كلما تذكرت كلمات زايد الخير، رحمه الله تعالى، والتي كانت سهلة وواضحة، مليئة بالتفاؤل والنظرة الإيجابية، لا يلتبس عليك فهمها ولا يمكن أن تمر بدروب النسيان حروفها، تماماً كما قال وهو يتحدث بلهجته المحببة والحماسية التي تتقد دوماً في عينيه ونبرة صوته: «الرجال هم من يصنع الأوطان.. ليس المصانع».

تمر ببالي مقولة والدنا، رحمه الله تعالى، كثيراً وأنا أهرب من برودة العديد مما أقرأ ظُهر أيام الجُمَع والتي جعلتني انساق لمتابعة برنامج تلفزيوني استضاف في حلقتين منفصلتين، والحمد لله على ذلك، شابين مواطنين .

ولكن كما يقول كبار السِّن لدينا: «ما تشابهت اللحى»، إذ كانا على طرفي نقيض تماماً، ولا أعرف صراحة لِمَ تستضيف قنواتنا والتي نتوسّم فيها الخير والبحث عمّا يُبرِز الوطن بصورة لائقة بعض النوعيات التي لا تمثلنا وليست هي من الفئات التي كان يراهن عليها لبناء الوطن زايد الخير، رحمه الله، والذي كان واضحاً في تصويرها عندما بعث برسالته لشباب بلاده بأبياتٍ ذائعة كانت بدايتها:

يا ذا الشباب الباني بادر وقم بجهود

ولا تقلّد الدِلَهـــاني لي ما وراهــــم فود

ضيفهم الأول كان شاباً مستهتراً، طريقة جلوسه مبتذلة وقد رمى نعله أمامه حتى يبيّن أنه (كوول) ويتحدث بطريقة وبتعابير لا تليق بلقاء في قناة يفترض أنها تحترم نفسها قبل أن تحترم مشاهديها، لشخصٍ كل رصيده الذي يفتخر به و«ينفخ» فيه مذيع البرنامج كليبات ساذجة في اليوتيوب تُقلّد البنات وأساليب المعاكسات، ولا أعلم حقيقة ما هي القيمة التي أضافها هذا اللقاء للقناة ومشاهديها والذين صَعَق أكثرهم هذا الاختيار الغريب.

بعد أسبوعين كان لقاء مختلف، ربما تكفيراً عن تلك السقطة السابقة، مع فتاة تستحق بجدارة أن تكون مثالاً للفتاة الإماراتية التي نفخر بها ونراهن عليها ويراهن عليها الوطن، حضور راقٍ ودماثة خلق ولباقة حديث وصوت هادئ يجبرك على احترام صاحبته واحترام من «ربّاها»، مع تواضع جمّ وهي تتحدث عن اختراعها والذي كان مفاجئاً لنا كمشاهدين.

فقد تعودنا وسئمنا من رؤية مشاريع العطور و«الشبّاصات» والـ «كب كيك» والتي يقهرك فيها المذيع وهو يتغزل ويتغنّى في تلك المنتجات في دليل واضح على سطحية بعض المذيعين وتقليدهم لمن سبقهم.

الاختراع كان مشروعاً جامعياً تمثل في «تصنيع» سيارة خاصة بذوي الإعاقات المتمثلة في فقدان الأطراف العلوية حيث يتم التحكم بكل وظائف قيادة تلك السيارة بالقدمين فقط، والجميل أنها لم تتوقف أو يثبّط عزيمتها كون أماكن بيع وقص وتعديل قطع غيار منتجها المطلوب في منطقة صناعية مزدحمة لا يؤمها إلا آلاف العمالة الآسيوية، وكم كان مضحكاً ومبكياً تعليقها بأن أستاذ تلك المادة لم يقبل ذلك الاختراع لكونه مغايراً للمطلوب، ربما كان ينتظر شبّاصة ملونة هو الآخر.

إن مهمة الإعلام ليست سهلة وليست محل تجارب وجس نبض للشارع بتقديم عيّنات غريبة من الشباب، خاصة أولئك الذين يبدو أنهم يحاكون النزعة اللامبالية بالذوق العام والمتملصة عن أخلاقيات مجتمعنا وقيمه الراقية، وإن كنّا نؤيد أهمية الاختلاف والتباين حتى تُعرَف الجماليات بأضدادها إلا أن ذلك لا يعني أن نخلط الجيد بالرديء فكل الأشياء مختلفة.

ولكن الذكاء هو أن نعرف أي اختلاف هو ما يخلق الفارق، وكما أنّه من الأهمية بمكان أن يتم تشكيل مؤسسة وطنية للاهتمام بالبحوث النوعية والاختراعات فإنّه مهم أيضاً أن يسعى الإعلام لإبراز مثل نوعية (ريم المرزوقي) والتي كانت مبعث فخر لمجتمعنا أن يرى إحدى بناته وقد وضعت لنفسها تحدياً ونجحت فيه بهذا الاختراع المختلف.

 فتسليط الأضواء على الشباب المبدع هو خير طريقة لتوضيح المسار المطلوب للجيل الناشئ قبل أن تختلط عليه الأمور فيظن الاستهتار والإسفاف واللامبالاة مطلباً ضرورياً لقبول المجتمع له، فشكراً ريم المرزوقي ومعذرةً لذلك الأستاذ الذي لم يوافق على الاختراع، و ليُبشِر فشبّاصته عليّ أنا.

 

Email