كيف الصحة؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

كل شيء في بلادنا يتقدم، إلا الصحة فإنها تتأخر. ليس هذا زعما أو تلاعبا بالألفاظ والكلمات، وإنما هي حقيقة يعيشها المواطنون والمقيمون كل يوم، يعانون منها أشد المعاناة، ويرفعون أصواتهم بالشكوى عبر وسائل الإعلام المختلفة، ولا مجيب سوى صمت الجدران التي يقبع خلفها المرضى، مسلمين أمرهم إلى الله وحده، رافعين أيديهم بالدعاء له..

فهو وحده الشافي المعافي، لأن الشكوى إلى غير الله مذلة، أما الادعاء بأن للمريض حقوقا فهو ليس أكثر من يافطة تعلقها مستشفياتنا في المداخل والممرات، وتطبعها في مطويات تزين بها مكاتب العلاقات العامة التي لا تحل ولا تربط، ولا تأخذ منها حقا ولا باطلا، إلا إذا كنت ذا واسطة قوية، أو حظوة ومكانة رفيعة.

كيف الصحة؟ سؤال يصبح مشروعا عندما يداهمك المرض على حين غرة، فتسوقك الأقدار إلى أقسام الطوارئ في مستشفياتنا، لتجد نفسك ملقى على سرير ولا أحد يسأل عنك، فإذا بدأ صوتك يعلو أخذ يدخل عليك طبيب ويخرج طبيب، وأنت في دوامة لا تعرف حقيقة مرضك، ولا إلى أين سيؤول بك الحال، ثم يطول بك الانتظار دون أن يكون من حقك السؤال، وإذا سألت لا تجد من يفُك حيرتك، لذلك تضطر إلى أن تؤقلم نفسك مع حالة الفوضى التي تعاني منها أقسام الطوارئ في مستشفياتنا، حتى يجعل الله بعد عسر يسرا.

كيف الصحة؟ سؤال يصبح منطقيا عندما تجد نفسك أمام طبيب لا يعرف كيف يستخرج عينة دم من مريض كي تُجرَى عليها الاختبارات اللازمة، ويظل هذا الطبيب أكثر من نصف ساعة ينتقل من يد إلى يد، ومن رجل إلى رجل، والمريض يعاني من وخز الإبر التي تخترق جلده ولحمه، ثم تخرج منهما فارغة إلا من خيبة الطبيب الذي يبحث عمن ينقذه من هذه الورطة، حتى يكاد العرق يتصبب منه، حيث لا منقذ إلا الذي خلق الداء والدواء وقدّر الأقدار، فكان نصيب الطبيب هذا الحظ من المهارة، وكان نصيب المريض هذا الحظ من الطبابة.

كيف الصحة؟ يصبح سؤالا لا نعرف إلى من نوجهه عندما نجد أنفسنا أمام طبيب يخدع أهل مريض، فيقول لهم معلومات غير صحيحة، عن تحليل دم لم يتم إجراؤه لمريضهم، بسبب جهل ممرضة لم تعرف كيف تنقل عينة دم مأخوذة من هذا المريض، حيث تجلط الدم قبل أن تصل العينة إلى جهاز التحليل فلم تظهر النتيجة، ثم يأتي هذا الطبيب، وهو لا يعلم أن أهل المريض قد عرفوا ما حدث، فيدعي أن نتيجة التحليل جيدة، وأن حالة المريض على أحسن ما يرام، ويخبرهم أنه سيقوم بإخراجه من المستشفى لأنه لم يعد هناك مبرر لبقائه، لا لسبب سوى أن هذا الطبيب لم يعد لديه ما يقدمه للمريض.

كيف الصحة؟ سؤال يبدو طبيعيا عندما لا تعرف ممرضة كيف تضع قناع أوكسجين على وجه مريض، فتجعل عاليه سافله، ليقوم أهل المريض بإرشادها إلى الطريقة الصحيحة لوضع القناع، بعد أن ترفض في البداية مساعدتهم، ويكون السؤال الأهم عن المعهد أو المكان الذي تعلمت فيه هذه الممرضة أصول مهنة التمريض وأساسياتها في البلد الذي قدمت منه..

وعن المسؤول الذي اختارها لهذه الوظيفة، وعن الذي اختبرها، وعن الذي ما زال محتفظا بها في هذا المكان حتى الآن، وعن الذي يمكن أن يطمئن، بعد خيبتها في تركيب قناع أوكسجين على وجه مريض، إلى ترك مريضه بين يديها لتقوم بالاعتناء به والسهر على صحته، ونجدته عندما يذهب أهل المريض إلى بيوتهم ويبقى وحده تحت رحمة ممرضة لا تعرف كيف تضع قناع أوكسجين على وجه مريض.

كيف الصحة؟ سؤال يصبح ضروريا عندما يطلب قسم من الأقسام طبيبا من قسم آخر في المستشفى نفسه، كي يكشف على مريض مقيم لديه، لأن الكشف المطلوب ليس من اختصاص أطباء القسم الذي يقيم فيه المريض، فيرفض أطباء القسم الآخر الحضور بدعاوى لا يمكن أن تقبلها مهنة الطب التي نصفها بالإنسانية، ويطلبون منهم بشكل صريح عدم الاتصال بهم مرة أخرى، متخلين عن إنسانيتهم، متمسكين بأنانيتهم وغرورهم، وتجردهم من أبسط واجبات المهنة، ناكثين القسم الذي أدّوه عندما تخرجوا من كليات الطب التي درسوا فيها، مشوهين الصورة الجميلة التي في الأذهان عنهم. "كيف الصحة؟"

ليس سؤالا واحدا، وإنما أسئلة كثيرة ليست افتراضية، وإنما حقيقية، نابعة من مواقف مررنا بها في الماضي، ونمر بها في الحاضر، وسنمر بها في المستقبل إذا بقي الحال على ما هو عليه، لتصبح عبارة "كل شيء في بلادنا يتقدم إلا الصحة فإنها تتأخر"، حقيقة وليست ادعاء أو مبالغة، ويصبح انعدام الثقة في مستشفياتنا ومنشآتنا الطبية واقعا يعيشه الجميع.

وحدهم المسؤولون عن الصحة وهيئاتها يرون كل شيء جميلا وزاهيا وبراقا، ويعتقدون أن ما نقوله لا وجود له إلا في جزر الواق واق. أما الهجرة إلى مستشفيات ميونيخ ولندن وبانكوك وغيرها، ففي رأيهم دلع وترف لا داعي له، حتى لو كانت هي الحل الوحيد لعدم التعرض لمثل هذه المواقف، أو لتصحيح الأخطاء الطبية التي غدت ظاهرة يتعرض لها الجميع، وينكر وقوعها أهل الصحة وحدهم.

كيف الصحة؟ سؤال سنظل نطرحه، طالما بقيت صحتنا عليلة، ونخشى عليها أن تدخل غرفة الإنعاش، هذا إن لم تكن قد دخلتها فعلا.

 

Email